لا يعكس حصاد سنة سينمائية المشهد الحقيقي للسينما في هذا البلد أو ذاك، ذلك أن السينما صناعة كبرى معقدة، وذات خصوصية لا تتجلى ديناميتها المتواصلة خلال فترة زمنية محددة بل هي مراكمة للخبرات والتجارب عبر السنوات، فتجهض أحلام سينمائية كثيرة خلال سعيها للوصول إلى «تلك العتمة الباهرة»، ليبقى القليل الذي يرى النور في فضاءاتها الساحرة، ناهيك عن أن فيلماً واحداً قد يستغرق الحديث عنه والاستعداد له وتصويره ومونتاجه سنوات عدة كما هي الحال، ونحن نتحدث عن السينما السورية، مع مشروع فيلم «الهوية» لغسان شميط الذي يتكرر الحديث عنه في كل سنة من دون أن تدور الكاميرا «الصبورة» إيذاناً ببدء التصوير. مع ذلك قد يقود الكشف، بالأرقام، عن حصيلة سنة سينمائية إلى استنتاجات محددة تعين على القراءة الصحيحة، وهذه الحصيلة، في المثال السوري، تتمثل في أربعة أفلام روائية طويلة، وهو رقم قياسي لم تحققه السينما السورية منذ سنوات طويلة. ما الذي حدث، إذاً، لتغدو السنة المنقضية بمثابة طفرة سينمائية سورية؟! (لا بمقاييس سينمائية عالمية وإنما بمقاييس محلية). هذه الزيادة الإنتاجية تنطوي على استنتاجين، قد لا يرضي الاستنتاج الأول القائمين على المؤسسة العامة للسينما السورية التي اعتادت أن تحقق ما معدله فيلمان روائيان طويلان، وفي حالات نادرة ثلاثة أفلام في السنة الواحدة، بيد أن هذا الرقم هبط، خلال السنة المنصرمة، لتكون ثمرة المؤسسة فيلماً روائياً طويلاً وحيداً هو «حراس الصمت» لسمير ذكرى الذي لم يحظ بتقدير نقدي أو جماهير خلال عرضه في مهرجان دمشق السينمائي الأخير. والأرجح ان «التنويه الملتبس» الذي منح له كان جائزة ترضية للمؤسسة. وإذا كانت ضآلة الموازنة المخصصة للإنتاج هي الذريعة الدائمة لندرة الكم السينمائي، فإن الجديد في هذا الإطار هو رفع الموازنة «الرسمية» المخصصة للانتاج السينمائي في البلاد، أخيراً، إلى نحو ثلاثة أضعاف ما كانت عليه لتصل إلى نحو 135 مليون ليرة سورية (الدولار الأميركي يعادل 47 ليرة سورية) وهذا ما سينعكس إيجاباً، كما يفترض، على حركة الإنتاج السينمائي خلال السنوات المقبلة. قطاع خاص أما الاستنتاج الآخر فيتمثل في إقبال القطاع الخاص، نسبياً، على خوض مغامرة الانتاج السينمائي، وكانت الحصيلة، هنا، ثلاثة أفلام، وهو رقم يكاد يبشر ببداية النهاية لعزوف القطاع الخاص عن الاستثمار في حقل السينما. فيلمان من إنتاج شركة (ريل فيلمز) التابعة لشبكة (اوربت) والتي يديرها المخرج السوري هيثم حقي، وهما «مطر أيلول» لعبداللطيف عبدالحميد الذي نال الجائزة البرونزية في مهرجان دمشق، و «روداج» لنضال الدبس الذي لم ينل، بدوره، ترحيباً نقدياً وجماهيرياً أفضل مما ناله فيلم زميله ذكرى، وفيلم «دمشق مع حبي» لمحمد عبدالعزيز، وهو من انتاج شركة «الشرق» السورية الخاصة. وأنتج، خلال السنة المنصرمة، نحو عشرة أفلام قصيرة مثل «الوصية الحادية عشرة» لموفق قات، و «أثر الفراشة» لفجر يعقوب، و «الاعتراف» لعبد الله الأصيل، و «انفلونزا» لرياض مقدسي، و «شطرنج» لأياس جعفر، و «الفصول الأربعة» لنيفين الحرك وغيرها، كما استمرت المؤسسة في إصدار سلسلة الفن السابع التي ضمت الكثير من العناوين السينمائية المهمة، ترجمة أو تأليفاً، واستمرت المؤسسة، كذلك، في تنظيم أسابيع سينمائية عرضت أفلاماً تنتمي إلى تيارات ومدارس سينمائية مختلفة، فضلاً عن إقامة المهرجان السينمائي؛ الحدث السنوي الأبرز الذي يحيي الطقس السينمائي الخافت، وحظي خلاله الفيلم الجزائري «الخارجون عن القانون» لرشيد بو شارب بأرفع جائزيتن فيه، وهما الجائزة الذهبية في المسابقة الرسمية، وكذلك جائزة أفضل فيلم عربي. وفي ربيع كل عام تشهد دمشق تظاهرة سينمائية «غير رسمية» راحت تتكرس عاماً بعد عام، ونقصد بذلك أيام سينما الواقع، التي يمولها عدد من المؤسسات والهيئات والشركات، وهي تحتفي، على طريقتها، بالسينما المستقلة متمثلة في أفلام تسجيلية ووثائقية لا تجمعها سوى وحدة «الهم السينمائي» المتقاربة في كل بقاع الأرض. ويبدو ان القائمَين على هذه التظاهرة عروة النيربية وديانا الجيرودي، مستمران في هذا النشاط السينمائي المختلف، بل يبتكران أساليب ورؤى جديدة في كل دورة، وكذلك تنظم المراكز الثقافية مثل المركز الثقافي الفرنسي ومعهد غوته والمجلس الثقافي البريطاني ومعهد سرفانتس وغيره عروضاً سينمائية تشكل فرصة ثمينة لعشاق الفن السابع وسط استمرار تردي وضع الصالات الخاصة باستثناء واحدة أو اثنتين. سنوات متشابهة اللافت أن المتابع يجد نفسه في كل سنة أمام مشهد سينمائي مماثل للسنوات التي سبقته، وفي كل مناسبة نسمع الكثير من الوعود والتطلع نحو «النهوض بالحركة السينمائية في البلاد». غير ان هذه «النيات الطيبة والشعارات الطموحة» راحت تفقد معناها، وأضحت مثل «اسطوانة مشروخة» تدار لدى كل نشاط سينمائي، وبينما يعلو صوت «الأحلام والآمال»، تحتفظ السينما بصوتها الخافت وبصورتها الكسولة؛ البطيئة، ويصعب، هنا، وضع اللوم كاملاً على جهة بعينها، فالمؤسسة والسينمائيون والقطاع الخاص وأصحاب الصالات وحتى رواد السينما ومحبوها الذين وجدوا في «قرصنة الأفلام» بديلاً ناجعاً، إذ تمتلئ الأسواق السورية بأحدث الأفلام الفائزة لتوها في برلين وكان وفينيسيا وبأبخس الاثمان... كل جهة من هذه تتحمل قدراً من المسؤولية. نقول ذلك كي لا نقود دفة الحديث إلى متاهات ومسارات أخرى متعلقة ب «السياسة الثقافية في البلاد، وبخطط تطوير الفنون» وغيرها من التعابير التي يبدو أنها فارغة المعنى، بدليل أن مرور أكثر من نصف قرن على استقلال البلاد العربية لم يفض إلى نتيجة تذكر في هذا المقام!