حين أدلى المخرج السويدي الكبير الراحل حديثاً انغمار برغمان، بتصريحه الشهير حول زميله الروسي اندريه تاركوفسكي معلناً ان هذا الأخير فتح امام عينيه باباً، في الحياة والسينما كان ينقصه وهو المبدع المخضرم، كان المخرج الروسي يحقق في السويد نفسها، الفيلم الذي قدّر له ان يكون آخر أعماله، وربما أجملها في نظر كثر من النقاد. ولقد قيل يومها ان تاركوفسكي إنما يجمع في ذلك الفيلم عناصر سينماه الخاصة مع عناصر من برغمان هي اشبه بتحية الى سينما هذا الأخير. والحقيقة ان الفيلم بدا حين عرض بعد إنجازه، منتمياً حقاً الى مكان ما بين عالمي السويدي والروسي، بحيث كثر التساؤل عما اذا كان برغمان وجّه تلك التحية الى سينما تاركوفسكي وهو عارف سلفاً بموضوع الفيلم وأجوائه منذ ما قبل تصويره. أم ان التصريح جاء سابقاً، فحمّس الأمر الروسي كي يسير في فيلمه العتيد على خطى سلفه الكبير. مهما يكن من أمر، فإن هذا يبقى من قبيل التفاصيل، وذلك لسبب بديهي وهو ان مخرجاً كبيراً محباً للسينما مثل برغمان، ما كان يمكنه إلا ان يرى في معظم افلام تاركوفسكي السابقة استكمالاً لأشياء كثيرة كان هو عبّر عنها في أفلامه الملتقية في ميتافيزيقيتها وأسئلتها الوجودية الشائكة مع أفلام لتاركوفسكي مثل"المرآة"و"ستالكر"وحتى"أندريه روبليف". كما ان تاركوفسكي برهن في هذه الأفلام وغيرها عن دين فني وفكري تجاه الأستاذ السويدي. في ذلك الحين، كان هذا الأخير أعلن مراراً وتكراراً، وقد اقترب من أوج كهولته انه اعتزل السينما وأن"في إمكان جيل تاركوفسكي ان يكمل الطريق"، بينما كان تاركوفسكي، الشاب نسبياً، يحمل في جعبته مشاريع عدة لأزمان مقبلة، لكنه سيموت من دون ان يدنو منها، إذ سيكون"القربان"الفيلم الذي نتحدث عنه هنا، وحققه تاركوفسكي في منفاه السويدي، فيلمه الأخير. وأشبه بأن يكون وصيته. قبل الحديث عن"القربان"، لا بد هنا من التوقف عند عبارتين ترتبطان به، أولهما نعود فيها الى برغمان، الذي قال يومها"ان تاركوفسكي يحمل الى فن السينما في خصوصيته لغة جديدة تسمح له بأن يلتقط الحياة بوصفها مظهراً... الحياة بوصفها حلماً". اما الثانية فهي تلك التي خطها تاركوفسكي على الصورة الأخيرة من فيلمه هذا وجاء فيها:"انني أهدي هذا الفيلم الى ابني اندريوشا، واضعاً فيه كل أملي وكل ثقتي". فإذا أضفنا الى هذا كله ما قاله الناقد الفرنسي كلود بيليه من ان"القربان"هو"في الوقت نفسه صلاة وثناء ومثل ونشيد كنسي"، يمكننا ان نفهم تلك القيمة الخاصة التي حازها هذا الفيلم في سياق تاريخ فن السينما. وكذلك ما قاله كثر من النقاد حين رحل تاركوفسكي بعد إنجاز هذا الفيلم، من أن الأمر طبيعي ف"القربان"ما كان يمكن إلا ان يكون الفيلم الأخير لمخرج له حساسية ونظرة تاركوفسكي. إذا كان ثمة من وصف يمكن إطلاقه، بعد هذا التقديم كله، على فيلم"القربان"فلن يكون سوى اننا امام فيلم علاقات. ذلك ان ليس ثمة هنا احداثاً بالمعنى المنطقي للكلمة. لدينا مجموعة من الأشخاص لا أكثر، في مقدمهم ألكسندر، الكاتب والممثل السابق الذي يعيش اليوم مع أسرته الصغيرة في جزيرة غوتلاند. إنه يعيش أزمة وجودية حيث نراه، بعد سنوات إبداع وعمل طويلة، بلغ اليوم من العمر عتياً ولم يعد يؤمن بأية سلطة للكلمات. في المقابل هناك زوجته اديلاييد التي تصغره كثيراً، وهي مثله ممثلة، لكنها لم تعد اليوم واثقة من أمور كثيرة كانت بديهية بالنسبة إليها في الماضي... وهي لم تعد بالتالي- على ثقة من انها أحسنت الاختيار حين تزوجت ألكسندر. وهذا على رغم ان لديها منه ولدين: ابنة مراهقة، وصبي اجريت له حديثاً جراحة في الحبال الصوتية بحيث لم يعد قادراً على الكلام. ان ألكسندر يعيش مع هذه الأسرة الى جانب خادمة أمينة، لها في الوقت نفسه سمات وتصرفات الساحرة، مع إطلالة بين الحين والآخر لساعي بريد فيلسوف ويلذ له ان يتبادل حديثاً فكرياً وروحياً مشبعاً بالفلسفة مع ألكسندر بين الحين والآخر. وعند مفتتح الفيلم نعرف ان اليوم هو ذكرى ميلاد ألكسندر الذي يشعر بألم ان العمر يتقدم به كثيراً. لكن هذا ليس مصدر حزنه وألمه الوحيد. هناك ايضاً إحساسه العميق بأن العالم يعيش على عتبة كارثة نووية مبيدة. وإذا كان هذا الأمر يخيفه، فإنما هو خائف من أجل أسرته لا من أجله. وليلة الذكرى ستكون، انطلاقاً من هنا، ليلة طويلة ومؤلمة، خصوصاً ان جهاز التلفزة يعلن حلول الكارثة النووية والدمار الشامل... وهكذا ينغلق كل من الحاضرين على ذاته وعلى مخاوفه. اما ألكسندر فإنه يصلي - لمرة نادرة - للرب مع نذر بأنه سيضحي بكل ما يملكه ويحبه في هذا العالم قرباناً كي لا يحدث ما كان يتوقع له ان يحدث. وهو في إطار هذا النذر يمارس الحب مع ساحرة، ويتمتم صلوات وأدعية لا تنتهي. وعند الصباح حين يستيقظ ألكسندر يجد، لمفاجأته، أن كل شيء طبيعي وأن شيئاً لم يحدث مما كان يعتقده سيحدث. هذا تراه حلم بذلك كله؟ هل تراه يحلم الآن بالنجاة؟ لسنا ندري وأندريه تاركوفسكي لا يقول لنا شيئاً من هذا كله. وبالتالي فإننا لن نعرف ابداً ما إذا كانت المشاهد التالية التي تختتم فيلم"القربان"حقيقية أو استمراراً للحلم. ففي المشاهد التالية، يقرر ألكسندر أن يفي بما نذره. وهكذا يحرق البيت ويضحي بكل ما يحبه، حتى ينتهي به الأمر الى ان يقاد مثل مجنون الى مستشفى للأمراض العقلية. أما في اللقطة الأخيرة فإن الصبي، الذي كان عاجزاً عن الكلام، هو الذي يتكلم طارحاً سؤالاً بسيطاً - شائكاً:"في البدء كان الكلمة... لم كان هذا يا أبي؟". وألكسندر لن يجيب عن هذا السؤال، فهو منذ زمن بعيد لم يعد يؤمن بالكلام. في الحقيقة ان تاركوفسكي، كدأبه بالنسبة الى بقية افلامه السابقة، لم يحاول ان يعطي أي تفسير لكل ما يحدث على الشاشة. في نصوص اخيرة كتبها، دار من حول الفيلم وتحدث عن أمور كثيرة، لكنه أبداً لم يحاول ان يفسر أو يبرر. بالنسبة إليه، إذا كان الفيلم يعجز عن ايصال جوهره الى متفرجيه، لن يكون ثمة أية ضرورة للكلام عنه. ومن هنا راح الباحثون والنقاد يتبارون لإعطاء تفسيرات، ولعل من أصوب هذه التفسيرات، ذاك الذي يطاول"جنون"ألكسندر حيث رأى كثر من المتحدثين عن الفيلم أن ألكسندر إذا كان قد ضحى بشيء حقاً في هذا السياق، فإنما هو ضحى بعقله فجن لينقذ العالم بتلك التضحية من الدمار النووي. كان هذا كله مدعاة للإمعان في التقريب بين تاركوفسكي وبرغمان من خلال هذا الفيلم. غير ان هناك ايضاً نقاط تقارب أكثر مادية: فالمؤسسة السويدية التي اعتادت إنتاج برغمان هي التي أنتجت"القربان"كما ان المصور الكبير سفن نيكفست صوره وهو الذي صور أروع أفلام برغمان الأخيرة. ناهيك بأن أيرلند جوزفسون الممثل المفضل لدى برغمان كان هو الذي لعب دور ألكسندر. "القربان"- على رغم هذا كله - فيلم روسي. ذلك ان اندريه تاركوفسكي 1932 - 1986 ظل روسياً حتى النخاع ولا سيما في الفيلمين الأخيرين"نوستالغيا"وپ"القربان"اللذين حققهما في المنفى الإيطالي ثم في المنفى السويدي، بعدما بارح وطنه السوفياتي على خلاف عميق، فني وفكري، دفع سلطات موسكو الى احتجاز ابنه وزوجته ومنعهما من السفر، ما أثر فيه صحياً في سنواته الأخيرة. ومع هذا نعرف ان تاركوفسكي ساهم مساهمة اساسية في بعث السينما الروسية العظيمة، قبل منفاه عبر روائع مثل"اندريه روبليف"وپ"المرآة"وپ"طفولة ايفان"و"سولارسي"وغيرها من روائع أعجبت العالم كله لكنها اخافت ستالينيي الكرملين بالطبع.