يكاد يكون من الممكن القول إن كتاب «النحت في الزمن» للمخرج الروسي أندريه تاركوفسكي، وبترجمة جديدة دقيقة ومنغّمة من الناقد السينمائي البحريني أمين صالح، سيكون في وسعه أن يحتل مكاناً خاصاً به بين عموم الأدبيات السينمائية التي تصدر عندنا بلغة الضاد. ليس بسبب أهمية وخصوصية تجربة تاركوفسكي السينمائية نفسها، وإنما لأنه يكاد من زاوية أخرى أن يختزل قضايا سينمائية شائكة ومعقدة فرضتها رؤية هذا السينمائي المتفرد بلغته، والتي يمكنها إلى حد بعيد أن تتوافر فيها قولة فيلليني عن هذه النوعية من الأفلام «إن الأحلام هنا هي الحقيقة الوحيدة». وباعتبار أنها كذلك، فقد صار لزاماً على تاركوفسكي وقتها أن ينتشل يومياته وتخطيطاته لأفلام قام بانجازها، وأفلام أخرى لم يتسن له أن ينفذها بسبب وفاته (1986)، وربما أيضاً بسبب غيابه القسري عن روسيا حين لم يكن مرحباً به للعمل فيها إبان تلك الفترة، وهو وإن اخترق هذه الحجب المفروضة عليه في أمكنة أخرى، كحال اشتغاله على فيلمه «القربان» الذي صوره في السويد مع مصور انغمار بيرغمان سفن نيوكست وباللغة الروسية، فإنه كان يدرك «ببسالة» كما تصف مشاهدة شابة لأفلامه في رسالة له من غير أن تتقصد ذلك ربما: «إن الزمن واحد وغير منقسم، وكما تقول إحدى القصائد... حول المائدة يجلس الأسلاف والأحفاد». النفاذ إلى تجربة استثنائية ليس سهلاً بالطبع النفاذ إلى تجربة هذا المخرج الاستثنائية حتى من خلال اعتماد هذا الكتاب مرجعية في تفسير أفلامه، فلن يجد القارئ الذكي والمراوغ والحصيف أي مرجعية هنا. وبالتأكيد إن تاركوفسكي هنا لا يتعمد ذلك، فهو يدرك من البداية أن مشكلته الأساسية تكمن أصلاً في عملية صنع الأفلام وليس الكتابة عنها، لأن النقاد الذين سيتبرمون من حولها ربما يسيئون لها بكلمات مستهلكة وصريحة يتم استعمالها من الأدبيات الصحافية الشائعة حتى يمكن القول مثلاً إن تاركوفسكي إنما يقدم إضافة على تجربة مواطنه سيرغي أيزنشتاين في فن ولغة المونتاج، حين يقترح أن المونتاج ليس هو وطن الفيلم، بقدر ما هو أسلوب لوصل اللقطات ببعضها بعضاً، فيما يكمن الفيلم في البعد العاطفي والروحي الذي يختزنه المؤلف، وليس استخدام التقنيات هنا إلا وسيلة غير ذي أهمية حين يكون المؤلف/ المخرج قد عرف وحدد ذلك الإحساس بالضياء والدفء الذي تفرضه نوعية المشاهدة على مشاهد لم يعد يذهب إلى السينما من بوابة النجم والنهايات السعيدة المتوقعة. هنا يندر في كتابة تاركوفسكي عن سينماه أن نجد تلك الأبعاد الضرورية لفهم الأنساق السينمائية، فهو يجد بكل سهولة الطريقة المناسبة للاستغراق في حال تأملية تتناسب بكل تأكيد مع النزوع الميتافيزيقي لشخصيته، ولهذا يفاجئ تاركوفسكي قراء كتابه بالقول إن الاتصال بالجمهور – الشخصي، وليس أي جمهور عن طريق الرسائل هو الذي دفعه إلى تأليف هذا الكتاب، ومن دون أن يدرك لاحقاً، إنه «سيغتال» في طريقه مخرجين كثراً في هذا العالم سبق لهم وقرأوا أولى ملاحظاته المتناثرة هنا وهناك بطريقة معكوسة ما أتاح ولادة أفلام تحاكي بصورة مشوهة بعض روائعه مثل «القربان» و «المرآة» في نواح كثيرة. لم تكن الرسائل مفرحة. بعضها جاء مكرباً ويحمل في طياته إحباطاً غير محدود، وهو لم يكن في وارد تقبل بعضها بحكم الظروف التي كان يمر بها. وبعضها الآخر جاء متفهماً له ولتجربته وأفلامه من غير أن يكلف أصحابها أنفسهم عناء التدخل في صميم هذه الأفلام، كل واحد على حدة، إذ يكاد يخطف فيلم «المرآة» العدد الأكبر من هذه الرسائل، وهي تصبح خاصة جداً، لأنها تصدر بالأساس عن جمهور خاص بتاركوفسكي وحده، فلم يسبق بحدود علمنا أن تربى جمهور على مشاهدة أفلام بهذه النوعية غير جمهور خاص بهذا المخرج يمكنه أن يؤخذ في مكان ما بقدرته على النفاذ إلى العالم العاطفي للبالغ والطفل بطريقة غير مفهومة، وهو يعرض للقيم الحقيقية غير الزائفة من خلال تحويل كل جزء من الصورة إلى رمز. ولأن الأمر كذلك في كتاب «النحت في الزمن» المؤلف من نحت لغوي لا يقل صعوبة عن فهم خاص للسينما، أو للقوانين الأساسية للشكل الفني كما يعبر تاركوفسكي نفسه الذي صار جزءاً منه، فإنه يمكن القول إن صاحب «طفولة ايفان» انطلق في كتابته من خلال إدراك مبادئه الخاصة في العمل عبر استجواب النظرية السائدة، حين يبلغها اضطراب وعشوائية تتجاذب السينما والفن عموماً. ولن يكون سهلاً بالطبع تكييف الكتاب مع حاجات النقد السريع الذي طالما نفر منه تاركوفسكي في محاضرات ولقاءات كانت تعقب عروض بعض أفلامه هنا وهناك. إذ لا يكفي هنا أن يغوص فيه إلا كل من له قدرة على الصبر والتأمل وهي عادة تتوجب أن تكون ملازمة أيضاً لمن يمكن أن يصمد في صالة، وهو يعكف على مشاهدة أفلامه أيضاً بذات الطريقة، حتى يخيل للمرء أن القراءة هنا يمكنها أن تخضع لطقس الصالة المعتمة، وما على القارئ إلا استخدام بصيرته العليا في فهم وتفكيك فصول هذا الكتاب بعد أن يرهن البصر لمشاهدة الصورة بكل مكوناتها.