مسألة وجود إعلام مرئي محايد ومستقل، تبدو مثل كذبة بيضاء صدقها بعضهم، وما زال يطمح إليها كثر في عالمنا. ففور تأزم الأحوال في منطقة ما، على خلفية حدث ما، نجد الشاشات التلفزيونية المعنية، بواسع تبايناتها، مشدودة لخلفياتها القومية أو العرقية أو الدينية أو المذهبية...الخ، منساقة لإبراز"حقيقة"معينة، وغالباً، ما تكون مختلقة من شاشة الى أخرى، لكنها عبر كل أثير تطرح على أنها الأصح أو الأدق، ولا يضارعها في الأمانة والصواب، ما يُقدم في سواها من المنابر. وغالباً ما يكشف الأداء الإعلامي المتردي، الكثير من خفايا ومزايا الزيف السياسي. وهنا، بيت القصيد، أو مربط جياد المهنة، في أن يغدو الإعلام وسيلة للتجهيل والتضليل، وإنتاج رأي عام، يدافع بشراسة عن"كذبة"، بعدما دأب واجتهد الإعلام بتلقينه إياها، على أنها عين الصواب. وعلى رغم الترسانة الإعلامية الهائلة لتركيا، والإمكانات الضخمة المسخرة لها، إلا أن موقفها ظهر هشاً في الاحتدام الجديد الذي شاب الصراع الكردي - التركي. إذ ركزت القنوات الفضائية على شحن الروح القومية، وإثارة الكراهية تجاه الأكراد، داخل تركيا وفي الخارج، والتحريض على العنف، دفاعاً عن:"وحدة الأرض والأمة والعلم..."التركي، المهددين من قبل بضعة آلاف من المقاتلين الكرد، المتحصنين في جبال نائية وعرة، يواجهون منذ عقدين ونيّف، جيشاً جراراً هو ثاني جيش في حلف الشمال الأطلسي. أما القنوات الفضائية الكردية، في كردستان العراق وأوروبا، فكانت تتابع الأحداث عن كثب، بنفس هادئ، بعيداً من التشنج، وكأن الحدث المتفاقم والعداء المتزايد في تركيا حيال كردستان العراق وقياداتها لا يعنيها. وهكذا، في الوقت الذي كانت الفضائيات التركية تشن حملة شعواء، وبلا هوادة، على الكرد في كل مكان، وتطالب الجيش بغزو كردستان، و"الاقتصاص"ممن أهانوا تركيا مهما كانوا، ومهما كلَّفها ذلك، اقتصرت التغطية الكردية على نشرات الأخبار، وبعض برامج الحوار. ولكن سرعان ما تغير الوضع بعد العملية العسكرية التي نفذها مقاتلو الكردستاني في الأراضي التركية، وأسر خلالها ثمانية جنود أتراك. إذ صدرت أوامر من هيئة الأركان العامة والحكومة التركيتين، بإعلان المنطقة المستهدفة، مغلقة أمام الإعلام، وبعدم نشر الأخبار عن تلك العملية نقلاً عن أية جهة إعلامية خارجية، والاقتصار على بث ما تذكره هيئة الأركان التركية، وبعدم نشر صور الأسرى الأتراك، تحت طائلة المعاقبة والملاحقة القانونية. ولكن، جاء الرد من الطرف الكردي، بتصعيد الحملة الإعلامية، على رغم الإمكانات المحدودة، قياساً بالأتراك. وبدأت حمأة الصراع الإعلامي تشتدّ على النحو الآتي: أعلنت فضائية"روج تي في"الكردية أن عدد القتلى الأتراك هم 35. الخبر هذا، كذَّبته هيئة الأركان، عبر الإعلام التركي، ناقلة الرقم لجهة خسائر الكردستاني. وحين ذكرت فضائية"روج"، ونقلاً عن الكردستاني، بأن هناك ثمانية أسرى، كذَّب الإعلام التركي ذلك. وحين أعلنت الفضائية الكردية أسماء الأسرى، اعترف الإعلام التركي بهم على أنهم"مفقودون"، وليسوا أسرى. ثم بثَّت الفضائية الكردية صورهم، وأحاديثهم، واتصلت بذويهم. حينها، فقط، اعترف الجانب التركي بوجود الأسرى. لكن، مع منع نشر أو بثِّ صورهم، والتكتُّم التام على أخبارهم نهائيَّاً. أحد الأسرى الأتراك، وعبر الفضائية الكردية قال:"لا تصدقوا الإعلام التركي... إنه كاذب ومخادع... إنه إعلام شوَّه الكثير من الحقائق..."قالها، وهو يبتسم، ويبدو محياه علامات الراحة. ذوو الأسرى، وأثناء اتصالهم بالفضائية الكردية للاطمئنان على أولادهم قالوا:"بتنا نتابع الفضائية الكردية، واشترينا أجهزة تخترق عمليات التشويش الذي تقوم به السلطات التركية على إرسال القناة"روج"، لكي نتابع أخبار أولادنا". أمام هذا الواقع، وبعد إجراء مقاربة بين اداء القنوات التركية والقناة الكردية، نجد أن الأخيرة، وبمفردها، واجهت جيشاً من الفضائيات وقاومته، واستطاعت أن تميط اللثام عن بعض جوانب اللعبة الإعلامية الخطرة، الجارية في تركيا، ونجحت في إدارة المعركة في الفضاء.