لا شك في أن المنتج السينمائي الراحل دانيال توسكان دي لا بلانتييه، يهتز في قبره الآن بعد سنوات من رحيله، وبعد سبع سنوات من تأسيسه "مهرجان مراكش السينمائي الدولي". وكيف لا يهتز وهو في العالم الآخر، حين يرى ماذا يحدث هذا العام للمهرجان المراكشي الذي كان أُسس كي يكون واجهة لفرنسا، في شكل عام ولأوروبا اكسسوارياً، في شمال أفريقيا، فإذا بنور الدين صايل، رئيس المركز الوطني للسينما في المغرب والمسؤول الفني عن المهرجان، يفتتحه هذا العام بفيلم انكليزي ويختتمه بفيلم أميركي؟ ثم كيف لا يهتز الراحل وهو يرى تظاهرته الفرانكوفونية المدللة، تحتفي هذا العام بالذات بالذكرى المئوية الأولى للسينما التي ما كان"ينبغي أن يكون لها وجود في مراكش"... السينما المصرية؟ اذاً في العام السابع، ومن دون أن يتخلى عن حضور فرنسي وأوروبي، وحتى فرانكوفوني كثيف ومستحب، استعاد مهرجان مراكش لوناً كوزموبوليتياً، لا شك في أنه مستحب بدوره، ومن شأنه أن يجتذب الى السينما ومهرجانها الطيب هذا جمهوراً واهتماماً كبيرين، لم يكن على أي حال يفتقر اليهما في سنواته الثلاث المنصرمة. لكن تكثيفهما هذه المرة يبدو ذا دلالة في وقت كانت أصوات كثيرة تتهم"مراكش"بمحاربة السينما العربية ومهرجاناتها، بل تتهم نور الدين صايل نفسه ب... العداء لمصر وفنونها. صايل نفسه كان كرِّم العام الفائت، في مراكش، واحداً من أكبر المخرجين المصريين والعرب، توفيق صالح في حضوره وعبر عرض أفلام له. وقبل ذلك كرّم يوسف شاهين ونور الشريف ويسرا... وغيرهم. أما هذه المرة فالرهان أكبر بكثير: أربعون فيلماً من درر تاريخ السينما المصرية ستجد طريقها الى قاعات المهرجان المراكشي، لتقول: هذه هي السينما المصرية الحقيقية... وهذه هي السينما المصرية التي يجب على مهرجان مثل مراكش، الذي أصبح واجهة حقيقية لأفضل أنواع السينمات في العالم، أن يقدمها الى هذا العالم. فمن"نشيد الأمل"1937 لأحمد بدرخان وپ"العزيمة"1939 لكمال سليم، الى"سهر الليالي"وپ"عمارة يعقوبيان"وصولاً الى"هي فوضى"ليوسف شاهين، مروراً بعشرات الأفلام التي زيَّنت تاريخ السينما المصرية، من العصر الذهبي، الى عصر القطاع العام، الى عصر"الواقعية الجديدة"بعلاماتها من أفلام محمد خان وعاطف الطيب وداود عبدالسيد، تحضر في مراكش، مجموعة مدهشة من أفلام هذه السينما التي يُعلَن موتها ودفنها عشرات المرات، ثم تطلع في كل مرة من رماد ذلك الدفن، حية قوية مثل طائر الفينيق. السينما التي نحب ومنذ الآن يقول نور الدين صايل، الذي يستضيف بدءاً من السبت في السابع من كانون الأول ديسمبر المقبل، بعض كبار نجوم السينما المصرية ومخرجيها ونقادها، أنه لا يتوخى من هذه التظاهرة، الأولى من نوعها في أي بلد عربي، البكاء على الأطلال،"فالجديد الذي تعرضه لا يقل أهمية ونجاحاً عن القديم"، ولا يتوخى أي مكاسب سياسية أو دعاية سياحية،"كل ما في الأمر أننا شئنا أن نحتفل على طريقتنا بسينما نحبها، ساهمت أفلامها الكبرى في تكويننا، سينمائيين ونقاداً... ولكن متفرجين قبل هذا وذاك...". والحقيقة أن قول صايل هذا، وهو باحث وناقد معروف ومؤسس لحركة نوادي السينما في بلده، قبل أن يتسلم الشؤون السينمائية وشؤون المهرجانات، انما هو صدى لما لا يتوقف عن ترداده معظم السينمائيين المغاربة في المغرب وتونس والجزائر، والذين يوجهون بين الحين والآخر، سهام النقد - المبررة حيناً والمبالغة أحياناً أخرى ? الى واقع السينما المصرية. فهؤلاء جميعاً يعترفون بأن السينما المصرية لعبت دوراً أساسياً في تكوينهم وفي حبهم للسينما. ولكن أيضاً في العلاقة الروحية التي تربطهم فكرياً بمصر، ومن خلالها، بالمشرق العربي. وهنا، لن نكون بعيدين من الحقيقة إن نحن أشرنا الى أن الأفلام الأربعين التي ساهم نور الدين صايل في اختيارها، ويمتد زمن انجازها من سنة 1937 الى سنة 2007 ما كان ينبغي له أن يجعل عنوان التظاهرة: سبعون عاماً من تاريخ السينما المصرية، خصوصاً أن الرقم مئة لا يبدو مقنعاً أو متفقاً عليه، حتى وإن اكتشف فيلم يقال انه حقق سنة 1907، علماً أن ثمة عشر سنوات أيضاً شهدت انتاجات وبدايات فعلية قبل 1937، تتمثل في"ليلى"وپ"قبلة في الصحراء"، ما يجعل الرقم الرسمي ثمانين عاماً... لكن هذه حكاية أخرى بالطبع، هذه الأفلام هي من أفضل ما عرفه تاريخ السينما المصرية والعربية. المهم هنا أن أفلاماً استثنائية تعرضها دورة مراكش، مثل"باب الحديد"وپ"الكيت كات"وپ"عرق البلح"وپ"امرأة على الطريق"الذي سيكون مع"باب الحديد"مناسبة لاستذكار حضور كاتب السيناريو الراحل عبدالحي أديب في التاريخ الجدي للسينما المصرية، وأفلاماً مثل"الهروب"وپ"أحلام هند وكاميليا"وپ"الأفوكاتو"وپ"سواق الأوتوبيس"وپ"زوجتي والكلب"وحتى"خللي بالك من زوزو"، ستأتي مجتمعة هنا على هذه الشاكلة لتقول الخلفية الحقيقية التي يستند اليها السينمائيون المغاربة عبر مرشح وعيهم أو وعيهم الباطني، حين يحدثونك عن الدَين الذي للسينما المصرية، في رقابهم. بل لربما يصح القول هنا أيضاً، وفي هذه المناسبة، إن هذه التظاهرة قد تفيد أيضاً كمرآة توضع أمام السينما المصرية التي تصنع في هذه الأيام، مذكرة اياها بأنها بعد كل شيء، وريثة كل ذلك الزخم الفني الكبير الذي حمله تاريخ مجيد ومشرِّف للسينما المصرية، ولكن من دون أن تدعي هذه المرآة لنفسها إعطاء دروس في التاريخ أو الفن أو السينما. هي مرآة وحسب، تعكس صورة ماضٍ زاخر، لا يزال ممتداً وإن بوتيرة كمية أكثر بطئاً. ومن المؤكد أن حضور الفيلم الأجدّ ليوسف شاهين، ومخرجين أكثر شباباً من"طفل السينما المصرية المشاكس"هذا، مثل مروان حامد وأسامة فوزي وهاني خليفة... هذا الحضور سيؤكد الاستمرارية، وحتى قدرة السينما المصرية على أن تلد أجيالها، ومن دون أن تكون بداية جيل عنواناً لزوال الذي سبقه. فحين يحضر شاهين مع يسري نصرالله ومروان حامد، وحين نعرف أن محمد خان لا يزال يواصل مشواره، وأن رحيل حسين كمال ورضوان الكاشف وأشرف فهمي، كان خسارة، لكنه لم يحدث قطيعة، يمكننا أن نطرح أسئلة وأفكاراً أكثر ايجابية مما اعتدنا أن نفعل. وعلى صعيد الممثلين، حين يأتي عادل إمام ونور الشريف الى مراكش وأداؤهما أكثر شباباً من معظم منافسيهما - وهذا ينطبق بالتأكيد أيضاً على ليلى علوي ويسرا والهام شاهين -، لا شك في أن ايجابية الأسئلة والأفكار تزداد تألقاً. وكل هذا من دون أن نتوقف عند حضور عماد الدين أديب الذي تمكّن خلال العامين الفائتين ليس فقط من اعادة الحياة الى نوع شعبي مميّز من السينما المصرية ومن تاريخ مصر بالتالي بفضل انتاجه"عمارة يعقوبيان"وپ"حليم"وپ"مرجان أحمد مرجان"، بل من اعادة بعض السينما المصرية الى ذرى النجاح، محلياً وعالمياً. فليهتز! ترى، هل يقول حضور مصر هذا العام في الدورة السابعة لمهرجان مراكش غير هذا كله؟ وألا تستحق مدن ومهرجانات عربية أخرى، أن يزورها، بدورها، هذا الحضور، طالما انه من ناحية استعادة لجزء من الوعي الفني العربي عبر مراحل تكونه، ومن ناحية ثانية اعادة الحياة الى تعاون وتقارب حقيقيين بين مصر والمدن العربية؟ من المغرب اذاً أتت الخطوة الأولى، ومن نور الدين صايل الذي لم يكن أحد ليتوقع منه ? هو بالذات الذي طالما أصابته سهام من هنا وهناك في هذا المجال -، أن يفعلها، ففعلها ليقول:"عندما نحب مصر، هذه هي مصر التي نحبها"، وليعذرنا المنتج الفرنسي الكبير الراحل دانيال توسكان دي لا بلانتييه، إن تركنا قبره يهتز. ففي الاهتزاز بعض حيوية مستحبة بين حين وآخر.