من أين يأتي كل هؤلاء الاستراتيجيون؟ وكيف ينبتُ هؤلاء المحللون كما الفطر في ليالي الرعود القاصفة، ثم يبدأون بقصف حممهم الكلامية التي تصيب عقولنا وأفئدتنا مخلِّفة فيها الحيرة والبلبلة، وتُشعل النيران في غرائزنا ومكنوناتنا البدائية، وتسعّرُ كلّ ما هو قابل للاشتعال في بلد لم يبق فيه أخضر ولا يابس بفعل قابلية بنيه للتجاوب مع كل شرارة تحملها الريح، من القريب والبعيد. كلُّ عاطل عن العمل بات محللاً استراتيجياً. كل ثرثارٍ بات خبيراً محلّفاً في مصائر الأوطان. كل متقاعدٍ بات باحثاً في الماضي والحاضر والمستقبل. مهنة التنجيم لم تعد حكراً على العرّافات والمشعوذين والضاربين في الرمل. وَدَعْ، وَدَعْ. هذه هي الكلمة المخفية في ثنايا المفردات والجُمل التي يتقاذفها الدجالون الجدد أو يقذفونها فوق رؤوسنا في مساءات الانتظار والترقب. صحافي سابق يصير محللاً سياسياً. عسكري سابق يصبح خبيراً استراتيجياً. مناضل سابق يمسي باحثاً في شؤون البلاد والعباد. مع جزيل التقدير والاحترام لقلةٍ قليلة من الذين يعنون ما يقولون ويفقهون في التكتيك والاستراتيجيا، بماذا يختلف هؤلاء عن دجالي الغيب والبصارات البراجات ومستحضري الأرواح؟ بلى، ثمة أكثر من قاسم مشترك. فالزمن زمن دجل ونفاق، ولا يُستثنى من هذه الصفات مَن يتوهمون لأنفسهم أدواراً ويتصدون لمهمات ليست لهم ويغرقوننا بالأقوال في زمن الحاجة الماسة الى الأفعال. يقول المثل المصري"صاحب البالين كذاب"، أي أن الذي يدّعي صنعتين في الوقت نفسه إنما يدّعي ذلك كذباً، فكيف الحال بهؤلاء الذين يدّعون كل صنعة ويفهمون في الشاردة والواردة والطالعة والنازلة. يقول المثل اللبناني"الحكي ما عليه جمرك"، أي ان الكلام لا يكلف صاحبه رسوماً وأثماناً، لذا فإن بعض"الكلمنجية"لا يوفرون مناسبة ولا يضيعونها للهذر والثرثرة، ولو كانت ثرثراتهم تصيب شؤوناً أساسية ومصيرية ولا تحتمل ثرثرة و"تخبيصاً"خارج الصحن! لكن، هل يقع الحق، كل الحق على هؤلاء، أم ان الحق كالعادة على..."الطليان"؟! الأكيد أن الحق ليس على"الطليان"، فهؤلاء وعلى أنواعهم مجرد شمّاعة نعلّق عليها كل عيوبنا ومصائبنا، كما أن الحق ليس على الدجالين وحدهم، بل هو أولاً على من يفتح لهم المجال واسعاً للثرثرة و"التخبيص"و"التعفيص"في قضايا أكبر منهم بكثير. ولا نظلمُ الفضائيات العربية حين نقول انها المسؤولة الأولى عن هذا الفلتان"التحليلي"، وعن إسباغ الصفات والألقاب على كل من هبّ ودبّ بكرمٍ قلَّ نظيره، ولا يضاهيها فيه إلا الرئيس اللبناني السابق في توزيع الأوسمة على الزوار والمارة وعابري السبيل من أمام"القصر". وبفعلتها هذه تخلطُ الفضائيات بين الصالح والطالح، بين المحلل الفعلي والمشعوذ، بين الخبير الحقيقي والدجال، فلا نعود نميز الغث من السمين ولا الخطأ من الصواب ولا الباطل من الحق، فضلاً عن كون ابتذال الصفات والألقاب بهذه الطريقة البشعة انما يُعتبر إهانة، لا للمتلقي فحسب بل كذلك للمحللين الجديين وللخبراء الفعليين ولمن تعبوا على أنفسهم دراسةً وعِلماً وخبرةً حتى استحقوا صفاتهم. تعجز الفضائيات العربية عن ملء الهواء بمواد جادة وجدية ومتعوب عليها، إذ قلّما نشاهد وثائقياً عربياً مشغولاً بحرفية ومهنية، وقلما نتابع برنامجاً استلزم أشهراً وسنوات من البحث والتنقيب، وقلما نسمع ان قناة تلفزيونية أنفقت بسخاء على برنامج جدي. ومن المعلوم أن موازنة بعض الكليبات الترفيهية تعادل موازنة برنامج تلفزيوني على مدار سنة كاملة. وما يُصرف على حفلة منوعة يعادل ما يمكن ان ينتج أهم وثائقي. لذا فإن هذه الفضائيات تعمد الى مداراة عجزها بملء الهواء بالكلام وبالكلمنجية، وكي تبرر لنفسها ولمشاهديها استضافة هؤلاء ومنحهم الساعات الطوال كلما حلت بنا مصيبة أو تفاقم مأزق، فإنها تسبغ عليهم الصفات الفضفاضة عسانا نصدق أنهم يملأون الهواء بغير الهواء! المشكلة أن بعضنا يصدق، والحال، اننا مسؤولون كمتلقين عن واقع الحال، وكما يصنع الضحايا جلاديهم، نصنع نحن كمشاهدين ومستمعين جلادينا الكلاميين حين نتابع ونصغي ونصدق الثرثارين، ومثلنا كمثل السيدة التي صدقت ممدوح! وممدوح رجل كفيف يجول في القرى والدساكر يقدم"وصفات"شعبية لمن ضاقت بهم السبل وأعيتهم الحيل، وقعت عليه سيدة ورجته أن يصنع لها وصفة تعيد زوجها المنقطع عن معاشرتها منذ عشرٍ، الى صباه! فما كان من ممدوح إلا أن أعطاها"وصفة"أوصاها بوضعها تحت الوسادة. ولما فعلت صودف أن عنَّ للزوج معاشرة زوجته بعد طول انقطاع، فراحت تحلف بين الآه والآه بحياة ممدوح، الأمر الذي أغضب الزوج فسألها وقد ناله من الظن بعض الإثم: من هو ممدوح؟ فأخبرته بما جرى مشيدة بالمقدرة العجائبية لممدوح و"وصفته"داعية له بطول العمر! أخذ الزوج"الوصفة"من تحت الوسادة، فكّها وقرأ ما فيها، فإذا بممدوح قد ملأ"الوصفة"بعبارة واحدة تكررت عشرات المرات: "يُعاشركِ أو عمره ما يفعل" "يعاشركِ أو عمره ما يفعل"... وهكذا دواليك، تكررت العبارة الى حد الملل. ضحك الزوج من دهاء المشعوذ وغباء الزوجة، ومن محاسن الصدف التي جعلته يعاشر زوجته في الليلة ذاتها التي ضرب فيها ممدوح ضربته. أما نحن فممن أو على مَن نضحك؟ على فضائيات تصدق مشعوذيها وكتبة"وصفاتها"أم على أنفسنا حين نصدق ما لا يمكن تصديقه لكثرة تكراره واجتراره... ونقول ونعيد، شر البلية ما يضحك.