ها نحن في كوريا الجنوبية، مروراً بالعاصمة سول متوجهين إلى مدينة جونجو التي تعد من بين المدن التاريخية العتيقة في كوريا وتحتضن"مهرجان أدب آسيا وأفريقيا". مدينة جونجو الهادئة الوادعة تبعد نحو ثلاث ساعات بالسيارة عن العاصمة سول. جونجو تضم جامعة وطنية كبيرة تدعى تشونبوك، وعدداً من المراكز الثقافية التي ستكون أرضاً للمهرجان الكبير الذي خطط له كي يعقد في الأسبوع الثاني من شهر تشرين الثاني نوفمبر، هذه السنة. هكذا وصلنا إلى سول، محمود درويش وفيصل دراج وأنا، في انتظار عدد آخر من الكتاب العرب المدعوين الذين توالى وصولهم: صنع الله إبراهيم وسلوى بكر من مصر، وزليخة أبو ريشة وعلي بدر من عمان، والتونسية إيناس العباسي من الإمارات، ونوال السعداوي من أميركا. محمود درويش تركنا ذاهباً إلى سول كي يحتفل في اليوم التالي بتوقيع مختاراته الشعرية الأولى إلى الكورية بحضور الشاعر الكوري الكبير كو أون، الذي يذكر اسمه كل سنة عشية منح نوبل للآداب. أما نحن، فيصل وصنع الله وسلوى بكر وأنا، فواصلنا إلى مدينة جونجو التي تنتظر حدثها التاريخي الكبير الذي يدشن فرصة جديدة للعلاقات الثقافية الآسيوية - الافريقية بعد موت"اتحاد كتاب آسيا وأفريقيا"وتوقف مجلته"لوتس"بسبب تفكك الاتحاد السوفياتي وتحلل الكتلة الآسيوية - الأفريقية التي كانت تدور في فلكه أو أنها كانت قريبة منه بصورة من الصور. هنا في جونجو بدت الشمس كأنها تعلن ميلاد كتلة ثقافية جديدة. الطقس اللطيف في اليوم التالي لوصولنا سمح بإقامة احتفالية مسائية دارت في المدينة على وقع الطبول والرقصات الكورية التقليدية، بحضور رموز السلطة المحلية للمدينة والكتاب المشاركين في المهرجان وجمهور تقاطر إلى وسط جونجو التي يبلغ عدد سكانها حوالي ستمئة ألف. وكانت الاحتفالية المرحة بمثابة الإعلان عن بدء أعمال المهرجان في اليوم التالي حيث انتظم شمل المدعوين في الافتتاح الضخم الذي حضره أكثر من ألف شخص من المثقفين الكوريين الجنوبيين والكتاب الآسيويين والأفارقة الذين زاد عددهم على خمس وسبعين كاتبة وكاتباً. الاحتفال الافتتاحي أيضاً نمّ عن المستوى الذي رغب المنظمون في أن يكون عليه المهرجان. استخدام للتقنيات الصوتية والضوئية المتطورة مثير للانتباه، مزج للفولكلور الكوري والآسيوي والأفريقي، لقطات مأخوذة من الإعداد للمهرجان وندوته التحضيرية، صور المدعوين تطلع من خريطة آسيا وأفريقيا. جوّ احتفالي غير مسبوق في المؤتمرات الثقافية التي تكتفي بالكلمات وترديد الشعارات. أراد الكوريون أن يعلنوا منذ البداية أنهم جادون في موضوع تأسيس علاقات ثقافية أفريقية آسيوية بعيداً عن القوة السوفياتية التي أصبحت في ذمة التاريخ، وبعيداً أيضاً عن القوة الإمبراطورية المعولمة للولايات المتحدة التي ترابط في قاعدتها في شبه الجزيرة الكورية في قلب العاصمة سول. وكان بالإمكان أن يلحظ المرء القلق تجاه الأميركيين والغرب في الكلمات الافتتاحية، خصوصاً في كلمة أكبر شعراء كوريا كو أون الذي شدد في كلمته الساحرة العميقة على رفض وصف"العالم الثالث"الذي ألصقه الغرب بالشرق في مراتبية ضاع منها الآن قطبها الثاني وبقي قطباها الأول والثالث. كانت تلك الشرارة الأولى التي أشعلت المهرجان لستة أيام متوالية جرى فيها النقاش داخل قاعات خمس في جامعة تشونبوك في الآن نفسه في واحد من أضخم المهرجانات الأدبية التي شهدتها أخيراً. المهم في ما يتعلق بالإعداد أن المهرجان أعد أربعة مجلدات ضخمة وزعت على المشاركين: واحد يضم مختارات من الأدب في آسيا، والثاني يضم مختارات من الأدب الأفريقي، والثالث مختارات من الأدب في كوريا، أما المجلد الرابع فهو سجل ضخم وأنيق يوثق للمهرجان والمشاركين فيه بالكلمة والصورة، وكل ذلك باللغتين الإنكليزية والكورية. كان الكوريون جاهزين تماماً في هذا الحدث الثقافي الأكبر من نوعه في قارتي آسيا وأفريقيا، بالجو الاحتفالي، بعدد المدعوين الضخم من داخل كوريا وخارجها: زهاء ثلاثمئة مدعو، والمطبوعات والترجمة الفورية المميزة من الكورية إلى الإنكليزية إلى الفرنسية إلى الصينية وإلى العربية، وبالعكس. خلية نحل ضخمة كانت تعمل ليل نهار لإنجاح هذا المشروع الذي أريد له أن يكون دائماً لا موسمياً كما اعتدنا في العالم العربي. ومن هنا كانت العناية بالمدعوين وتلبية طلباتهم والسهر على راحتهم، إلى حد ترك لجنة دائمة منهم تصوغ البيان الختامي بالإنكليزية لتتم ترجمته من ثم الى الكورية. المهرجان اقتصر على الحلقات الدراسية المعمقة والنقاشات المثيرة، وسمح بقراءات شعرية خجولة في الحفل الوداعي في جونجو. لكن موضوع كل حلقة دراسية كان بحد ذاته مثيراً يطرح أسئلة على أوضاع الثقافات في كل من آسيا وأفريقيا: حول المنفى وآلامه وفضائله، حول آلام البشرية وأحزانها، حول الكتّاب الذين يعيشون في مناطق متنازع عليها، حول اللغات التي تشارف على الانقراض والزوال من هذا العالم، وأخيراً حول المرأة التي تتكلم بصوت غير صوتها. تلك هي الموضوعات الكبرى التي كانت محل نقاش مدة أربعة أيام، وهي متقاربة في أفق رؤيتها إذ هي نتاج العالم الحديث بكل تعقيداته وانزياحاته، ناشئة في أزمنة الاستعمار التي هرست الثقافات الآسيوية والأفريقية وأدت في الوقت نفسه إلى نزوح أعداد كبيرة من القارتين باتجاه أوروبا وأميركا، وظهور كتل استيطانية كولونيالية آتية من الغرب كما في جنوب أفريقيا وفلسطين. ولعل هذا يفسر كثرة ممثلي البلدين في المؤتمر والتعاطف الكبير الذي تحظى به فلسطين في كوريا الجنوبية وفي أوساط المثقفين الكوريين في شكل خاص. الحلقة التي ركزت على آلام البشرية ومعاناتها في الحروب، وحتى في أيام السلم، بحثت عن الحدود التي تشن من خلالها الحروب وتنكس الأسلحة إيذاناً بالسلام، كما تحدث القاص والروائي والشاعر الجنوب أفريقي المتمرد جيمس ماثيو عن الشعراء المنشقين في الأنظمة المستبدة مستعيداً التجربة الجنوب أفريقية والأبارتهايد، والحالة الجنوب - إفريقية بعد سقوط نظام الفصل العنصري. أما فيصل دراج فتحدث عن الذاكرة الجمعية والرواية العربية وكيف تعاملت الرواية العربية مع هزيمة 1967 على صعيد الشكل ووصف الحالة الوجودية. أما الحلقة التي دارت حول المرأة وأشكال اتصالها باللغة والإبداع، وعلاقتها الإشكالية باللغة، التي صاغها الرجل واستخدمها سلاحاً ضد المرأة، فشارك فيها عدد من الكاتبات والكتاب، وشهدت نقاشاً معمقاً حول ضرورة أن تكتب المرأة بصوت مختلف، وحول التمييز بين"الكتابة النسوية"وپ"كتابة المرأة"، وأين تقع المرأة في مثلث الدين والسياسة والإبداع، ودور النساء في آداب آسيا وأفريقيا. وقد شارك في هذه الحلقة المثيرة عدد من الكاتبات النسويات البارزات وعلى رأسهن نوال السعداوي وسلينا حسين بنغلادش. المنفى والأسئلة الحلقة الأكثر صخباً، وربما الأكثر عمقاً وجدلاً وإثارة للأسئلة، كانت حلقة المنفى التي شارك فيها عدد من الكتاب والنقاد والأكاديميين من كوريا وآسيا وأفريقيا، وتحدث في بدايتها كل من محمود درويش فلسطين، الذي أشار في كلمة جميلة إلى منفاه الفلسطيني الخاص والبعد الوجودي لهذا المنفى وتحول اللغة وطناً له. وشارك في هذه الحلقة الروائية سلوى بكر مصر والروائي والكاتب مو يان الصين، والروائي علي بدر العراق، وفخري صالح فلسطين - الأردن، وعدد آخر من الكتاب الكوريين والآسيويين والأفارقة. وقد طرحت في هذه الحلقة أسئلة حول طبيعة خطاب المنفى: كيف يتشكل وما هي علاقته بالأرض المرتحل عنها أو اللغة الأم التي أصبحت في خلفية مشهد المنفى، والانشقاق الذي يولده المنفى في الشخصية والتعبير واللغة، وحتى الحضور الفيزيقي للمنفي. وناقشت الحلقة أوضاع المنفى في الآداب المختلفة: الصينية والكورية والأفريقية والفلسطينيةوالعراقية، وحاول الباحثون من جنسيات متعددة العثور على البعد الوجودي للمنفى في حياة الشعوب أو الجماعات البشرية التي ينتمون إليها. كانت ورقة الكاتب الصيني مو يان حول الأدب والمنفى من بين الأوراق العميقة التي طرحت مفهوم المنفى في الآداب الحديثة والتنظيرات التي نشأت حول موضوع المنفى. لكن المشكلة تولدت في نقاش ورقته، وكذلك في الورقة التي قدمها كاتب هذه السطور حول"الأدب الفلسطيني نموذجاً معيارياً لآداب المنفى". وأكثر مو يان في ورقته من الحديث عن الكاتب الإسرائيلي عاموس عوز الذي التقاه أخيراً في العاصمة الصينية بيجين، وتوصل إلى أن عاموس عوز يمثل الكاتب في المنفى في وجه من الوجوه على رغم أنه من مواليد القدس قبل العام 1948. وأدى هذا الكلام عن منفى الإسرائيليين، وعودتهم من أرض الشتات إلى الوطن أرض الميعاد! إلى انعطافة في مجرى النقاش حول المنفى ومفهومه، خصوصاً بعد أن ألقيت كلمتي التي قلت فيها إن الأدب الفلسطيني نشأ في حضن المنفى بعد القطع الذي أحدثته نكبة 48 في تطور الثقافة الفلسطينية. الكاتب الصيني مو يان عاد بعد أن ألقيت ورقتي إلى الحديث مجدداً عن عاموس عوز واستعاد بعضاً من كلامه عن ضرورة حدوث سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين ناقلاً عنه قوله إن الشعبين يشبهان في وضعهما"شاتين"تعبران جسراً ضيقاً لا يتسع لمرورهما معاً. ومع أن مون يان بدأ رده علي بالقول إن ما قلته مس وتراً عميقاً في قلبه وإنني استطعت أن أقدم صورة موحية عن العلاقة الحميمة المثرية بين محنة الفلسطينيين وأدبهم، إلا أنه ظل متمسكاً بإعجابه بكلام الكاتب الإسرائيلي عاموس عوز. واضطرني التشديد على عاموس عوز، والرؤية الإسرائيلية المعتدلة !، وضرورة التقاء الفلسطينيين والإسرائيليين في منتصف الطريق وعدم تدافع"الشاتين"على الجسر، لئلا تسقطا في الماء الهادر في النهر، على القول له إن لدى عوز وجهين متعاكسين كوجهي جانوس، فهو في القدس يدافع عن وجهة النظر الإسرائيلية يتملق العواطف اليهودية الإسرائيلية، وهو محظي لدى الطبقة السياسية الإسرائيلية الحاكمة اليسارية واليمينية منها على السواء. أما خارج إسرائيل فهو يمثل حمامة السلام الكوزموبوليتانية الداعية إلى تنازل الإسرائيليين عن جزء من أرضهم للفلسطينيين! إعلان جونجو في نهاية المهرجان تمّت في بيت الكتاب الكوريين، الذي انتشرت على جدرانه صور كبيرة للكتاب المشاركين وسير ذاتية لهم باللغة الكورية ونسخ من كتبهم التي أحضروها معهم، قراءة البيان الختامي الذي أعدته اللجنة الدائمة للمهرجان، والتي اختيرت من بين الكتاب المشاركين من كوريا وآسيا وأفريقيا. سمي البيان"إعلان جونجو: مهرجان آداب آسيا وأفريقيا"، وقد نوه بما قام به الكتاب الآسيويون والأفارقة من قبل في اتحاد كتاب آسيا وأفريقيا، ونص على ضرورة التواصل المباشر الدائم بين كتاب القارتين، من دون أية وساطة من ثقافات أخرى خصوصاُ الثقافة الغربية، وأن يكون المهرجان أداة اتصال بين أدباء آسيا وأفريقيا، والتعبير عن معارضة الكتاب المشاركين الشديدة والحازمة لقمع حرية التعبير والإبداع والحرية الفردية والعنف والقهر السياسيين ومحاولة نفي الكرامة الإنسانية في ما يتصل بالجنس والعرق والطبقة والجنسية والدين. وعبّر الإعلان عن احترامه للغات والثقافات والآداب والتقاليد المحلية وضرورة تشجيعها والحفاظ عليها، من خلال برامج للترجمة بين اللغات الآسيوية والأفريقية المتعددة. ودعا الإعلان إلى ضرورة أن يستحدث المهرجان جائزة كبرى تمنح للإبداع الآسيوي الأفريقي وكذلك للترجمات التي تنقل الآداب الآسيوية الأفريقية إلى اللغات المختلفة المحلية والأجنبية.