نفهم ان يستخدم القائلون بوحدة الدين والسياسة، على اختلاف فرقهم ومذاهبهم، الدعوة الدينية للاستقواء بها في مشروعهم السياسي، كما كانت الحال على الغالب في التاريخ الإسلامي، حين كان اهل العصبية المطالبة بالسلطة تتسلح بحق إلهي أو بادعاء دعوة هي الأحق من بين الدعوات الأخرى. ولكن لا نفهم إلا بعد تفسير سلوك اهل السياسة في هذا الزمن المعاصر، وجلّهم ابناء حداثة سياسية. ذلك ان الأمر أضحى عملاً غير طبيعي في تاريخ الحداثة السياسة ومعاييرها. ومنذ ان استقر نصاب السياسة على اعتبارها علماً أو فناً للوصول الى السلطة من اجل تدبير وإدارة شؤون الناس ومصالحهم في الحياة الدنيا، ان يستدرج أهل السياسة وهم من النوع الحديث كبار رجال الدين ويطلبون منهم حل مآزقهم وأزماتهم وعلاج عجزهم عن ممارسة السياسة. كانت الكنيسة الكاثوليكية حسمت امرها، وبعد ممانعة طويلة استغرقت قروناً وكلفت حروباً، فأقامت حداً فاصلاً بين الدين والسياسة أو بالأحرى بين السلطة الدينية والسلطة المدنية. وكان ذلك لمصلحة الطرفين، من اجل ان يستقيم أمر الدين والتدين بصفاء ونقاء واستقلال. ومن أجل ان يستقيم أمر ممارسة السلطة المدنية، وتمارس السياسة في نصابها في شكل مستقل بلا وصاية أو رقابة فوقية إلا رقابة المجتمع عبر مؤسساته التمثيلية. على ان العلاقة بين الدين والسياسة، ولكونهما شأنين انسانيين يتعلقان معاً بقيم إنسانية مشتركة الحرية والمساواة والعدل كان من الصعب فصلهما فصلاً حدياً قاطعاً. لذا جرى الحديث عن الفصل بين الحقول وليس بين القيم، ولذا ايضاً تصبح الصيغة الأكثر ملاءمة للمعنى الفعلي والتاريخي للفصل هو"الفصل بين السلطة الدينية والسلطة المدنية"، وليس الفصل بين الدين والسياسة في المطلق. وفي ظني ان هذا الفهم كان في اساس النهج الذي سار عليه وبلوره ونهض به كنهج عالمي البابا يوحنا بولس الثاني. ومن المعروف انه كان لهذا النهج تأثيره المعنوي الكبير في نشر قيم انسانية عامة مستوحاة من القيم المسيحية، كما كان له فاعليته في السياسات العالمية العامة من طريق النصيحة والموعظة والنداء من بعد، لا من طريق التدخل المباشر في تفاصيل السياسة وتعاطيها. ولعله في هذا الإطار والسياق يمكن وضع وفهم نداء السينودوس من اجل لبنان في العام 1995، حين أرسى النداء منطلقات مبدئية لتكريس صيغة لبنان صيغة عيش مشترك، وصيغة تعدد ديني وثقافي، وديموقراطية توافقية. وأحسب ان الكنيسة المارونية في لبنان، وعلى رأسها غبطة البطريرك نصر الله صفير، التزمت هذا الخط في منهج وممارسة"الحد الفاصل والرابط"في الوقت نفسه بين الدين والسياسة. وهذا أمر كانت البطريركية والمجالس الكنسية عبّرت عنه في مناسبات. وكان من أبرز تعبيراتها وأوضحها ما ورد في نص المجمع البطريركي عام 2005:"ان الدولة المنشودة هي دولة تؤمن بالتمييز الصريح حتى حدود الفصل بين الدين والدولة، بدلاً من اختزال الدين في السياسة، أو تأسيس السياسة العامة على منطلقات دينية لها صفة المطلق". ومما يذكر في هذا المقام استذكار حال من حالات العلاقة بين الدين والسياسة في الإسلام الحديث، لا سيما بدءاً من الزمن الذي ندعوه"نهضة عربية". توزعت المرجعيات الدينية والإسلامية منذ ذاك الحين على خطين في علاقتها بالسياسة: خط محافظ ومستقل التزم حدود المدارس الدينية الكبرى، التي كانت شديدة التأثير في المؤمنين من زاوية دينية تعبدية، كالأزهر وجامع القرويين والزيتونة. وخط إصلاحي كان يحاول بالاجتهاد والتوفيق مواكبة العالم الحديث خط محمد عبده على سبيل المثال، من دون ان يجعل من السياسة حقلاً لعمل الدين، أو يجعل من الدين حقلاً للسياسة. ولم تكن المراجع الشيعية لا سيما في النجف خارج هذا التصنيف العام. فمراجع التقليد، سواء كانت محافظة أو إصلاحية، لم يكن حقل السياسة ليجذبها أو يغريها أو يطرق بابها إلا من باب الضرورة في إبداء رأي أو نصيحة أو موعظة تصب في رأيها في باب المقاصد لمصلحة عامة. وهذا خط نقرأه في سيرة عدد كبير من مراجع الشيعة، واليوم نقرأه بوضوح في مواقف السيد علي السيستاني في العراق. ويبدو لي ان بين حال البطريرك الماروني في لبنان، وحال المرجع الشيعي السيد السيستاني في العراق، في علاقتهما بالسياسة، أوجه شبه كبيرة وكثيرة، فكلاهما يتجنبان السياسة بما هي حقل مدني له أهله من سياسيين محترفين وغير محترفين، وله ايضاً وهو الأهم مؤسسته المدنية التي هي الدولة، والتي هي المرجع الوحيد للمجتمع بما هو جماعة مواطنين. على ان وجه الشبه الكبير الطارئ في هذه الأيام بين الاثنين، ان كلاهما يشكل ملجأ لطبقة سياسية عاجزة عن حل مشكلتها في إدارة دولة وحل أزمة وطن بكامله. في لبنان، وبعد ممانعة طويلة أبداها البطريرك برفض الدخول في تسمية مرشحين للرئاسة اللبنانية، اضطر، بتحفظ وبشروط، وإنقاذاً للدولة والوطن، ان يدخل في لعبة الأسماء، في حين ان موقفه قبل هذا ينحصر في الإطار العام للسياسة الوطنية: كالدعوة الى وحدة المسيحيين، وتغليب اجتهاد حضور الثلثين من النواب في جلسة الانتخاب من باب الواجب الوطني والدستوري الملزم، وترك النواب ينتخبون من شاؤوا. والحاصل ان الطبقة السياسية اللبنانية وبسبب عجزها المدقع أقحمت البطريرك إقحاماً في هذا الخيار: خيار التسمية كناخب رئيس من خارج المجلس النيابي. انها سابقة تضاف الى سابقات اخرى في أعراف السياسة اللبنانية لطوائف لبنان وسياسييها وأحزابها. فإذا كانت الرئاسات الثلاث رئاسة الجمهورية ورئاسة البرلمان ورئاسة الحكومة توزعت بموجب عرف ميثاقي ثم نص دستوري على الطوائف الثلاث"الرئيسة"في لبنان موارنة، شيعة، سنة فإن هذا التوزيع لم يكن يعني ? في الممارسة السياسية ان تستأثر"مراجع"كل طائفة في تسمية الرئيس المخصص لها، في منصب هو أولاً وقبل كل شيء منصب دولة وطنية واحدة لا فيديرالية طوائف. اما سابقة ما قبلها فكانت بدأتها"الشيعية السياسية"عندما سمّى حزب الله وهو حزب ديني سياسي يلعب دور المرجع الديني والسياسي معاً السيد نبيه بري رئيساً للمجلس، ثم استكملها باستقالة"وزراء الشيعة"من الحكومة ليؤسس في الصيغة اللبنانية قاعدة جديدة: استئثار حزب ديني بتمثيل كل الطائفة، وربط شرعية المشاركة بمشاركته في الحكومة والإدارة. وواقع الأمر ان أزمة الطبقة السياسية في لبنان وفي كل الطوائف تقود السياسة الى هذا المسار: ان تصبح المرجعيات الدينية، سواء كانت اشخاصاً أم أحزاباً، مأوى لعجزها، ومصحاً لأزمتها، ومرجعاً لقدرها الذي اختارته وحده. في العراق، ايضاً يلجأ السياسيون العراقيون، لا سيما الشيعة منهم، الى مرجعية السيد علي السيستاني، لحل أزماتهم وتغطية ضعفهم والتعويض عن عجزهم في مواجهة أزمة العراق العميقة، بل ايضاً لاستثمار تقربهم منه وزيارتهم له ورفعهم صوره احياناً، من اجل تدعيم لوائحهم الانتخابية وكسب اصوات المريدين والمقلدين في الوسط الشعبي. ومن المعروف ان الأحزاب السياسية الشيعية العراقية، لا تقول"بولاية الفقيه"، ولا السيد السيستاني يقول بها أو يطمح ان يتولاها. ومع ذلك تتزاحم هذه الأحزاب على التقرب من السيد، لا لمجرد الاحترام، وهو يحظى به من غير زيارة، ولكن لإقحامه في سياسة مباشرة ينأى عن الخوض فيها. يقاوم السيد السيستاني هذا الإقحام، منذ زمن، لا سيما منذ دخول الشيعية السياسية العراقية مسرح العمل السياسي ومجال الصراع على السلطة بعد إسقاط صدام حسين. إن متابعةً لمواقفه من خلال الإعلام، وقراءة لنصوصه الصادرة عنه، في المسألة العراقية إعداد حامد الخفاف، منشورات المؤرخ العربي - بيروت 2007 تبعثان على التنويه والإشارة الى أمور عدة. - أولها ان السيد، على رغم انتشار الأصوليات الدينية في العالم الإسلامي وانتصار نظرية ولاية الفقيه العامة في إيران، لا يزال يحافظ على إرث مرجعي شيعي عربي يفصل ويميز بين المرجعية الدينية والولاية السياسية. - ثانيها ان المرجعية الشيعية تحرص حرصاً شديداً على الدولة الحديثة، فكرة وجوهراً ومؤسسة ودستوراً وقوانين. جواباً على سؤال وُجّه الى السيد، حول هذا الموضوع يقول:"أما ما يريده الشيعة، فهو لا يختلف عما يريده سائر ابناء الشعب العراقي من استيفاء حقوقهم بعيداً من أي لون من ألوان الطائفية. وأما شكل نظام الحكم فيلزم ان يحدده الشعب العراقي بجميع ابنائه من مختلف الأعراق والطوائف، وآلية ذلك هي الانتخابات العامة". "هل تؤيدون الحكم الإسلامي في العراق؟ وهل تحبون ان تكون دولة العراق مثل دولة ايران الإسلامية"؟ يجيب السيد بما يلي:"اما تشكيل حكومة دينية على اساس فكرة ولاية الفقيه المطلقة فليس وارداً...". وحول انتشار السلاح والميليشيات، وادعاء هذه الأخيرة التصدي للإجرام"يرى السيد ان"أعمال القوة في التصدي للأعمال الإجرامية، على اختلاف أنواعها ومصادرها، ليس من الأمور الحسية التي يجوز التصدي لها لأي فرد أو جماعة بإذن أي فقيه جامع لشروط التقليد. بل يرى سماحة السيد نقلاً عن مكتبه ضرورة تطبيق النظم والضوابط القانونية في هذا المجال وعدم التجاوز عليها بوجه". ولمواجهة المحاولات التي كان يقوم بها بعض السياسيين العراقيين لاستثمار زيارتهم للسيد في مواقف سياسية، صدر عن مكتبه ما يلي: " إن سماحة السيد، على رغم اهتمامه البالغ ومتابعته المستمرة للشأن العراقي بجميع جوانبه، إلا أنه دأب على عدم التدخل في تفاصيل العمل السياسي، وفسح المجال لمن يثق بهم الشعب العراقي من السياسيين لممارسة هذه المهمة. ويكتفي سماحته بإبداء النصح والإرشاد لمن يزوره ويلتقي به من أعضاء مجلس الحكم والوزراء، وزعماء الأحزاب وغيرهم. والمؤسف ان بعضاً من وسائل الإعلام تستغل هذا الموقف وتنشر بين الحين والآخر بعض الأخبار المكذوبة وتروج الإشاعات التي لا اساس لها من الصحة". اقتبست النصوص من كتاب: النصوص الصادرة عن سماحة السيد علي السيستاني في المسألة العراقية، إعداد حامد الخفاف، بيروت 2007. خلاصة القول، ان ازمة السياسة في العالمين العربي والإسلامي تقود السياسيين ونخبهم الحاكمة وغير الحاكمة الى الاستنجاد بالمراجع الدينية، لإدخالها رغماً عنها في تفاصيل العمل السياسي. فلا نستغرب بعدها ان تنمو الأصوليات والسلفيات ودعوات الشرعية الدينية في السياسة وما يتفرع عنها في مجتمعاتنا العربية والإسلامية. * مؤرخ لبناني