يهبنا العالم أفقا ونهب أنفسنا نفقا، لا بل أنفاقا، في كل مرة ندخل فيها وبها! ولا نخرج منها إلا على ظهر دبابة أو زنزانة أو تابوت. يهبنا العالم أفقا، كي نحرر أصابعنا مما تلوث منها بنا، قبل أن يتلوث بأحد آخر. إن تشقق وتشظي البنى الاجتماعية التي عانت عقودا طويلة ومريرة من التعسف والاستبداد وثقافة القائد الرمز، والثوري الأكثر رمزية! أمر أكثر من طبيعي. حضور كلي لنفي الآخر، وللاعقلانية، تتسم بالعداء لكل مختلف عني حتى لو لم اختلف معه، أو لا يوجد ما اختلف معه عليه، فقط لأنني اختلف عنه، هو مسلم وأنا مسيحي، أنا كردي وهو عربي، أنا علوي وهو سني. أمر كرسه الاستبداد، لبنة... لبنة. هذا العداء له بؤرته المركزية التي تكفلت بتذرير البنى الاجتماعية، لتعيد إنتاجها موحدة متماسكة بفعل القوة العارية التي تمارسها أية سلطة، لم تأت من عمق الخيار الاجتماعي- وهل كان البعث وعسكره خيارا اجتماعيا في سورية؟ هذا من جهة، ومن جهة أخرى بفعل أدوات أيديولوجية أكثر عريا، لتعيد تماسكها حول السلطة/ الرمز. إنه تكريس لكل ما من شأنه إحاطة العقل بخوف السلطة والخوف منها، والدخول إلى تلافيفه، من أجل تكريس مبدأ الأنا الأوحد، كخيار سياسي لا ثاني له. عندما أختلف معك، يكون هنالك مادة ما نختلف عليها أو من أجلها؟ في سورية، ما هي هذه المادة؟ هل لأننا أبناء طوائف أو عشائر؟ أم لأننا أبناء أديان أو أحزاب؟ هل لأننا مع الممانعة أم مع أميركا؟ هل يوجد الآن دولة في العالم أجمع، لا يوجد فيها قوى وأحزاب وتيارات مع العولمة ومناهضة لها؟ أعطونا نموذجا واحدا ماعدا كوبا وكوريا الشمالية وسورية؟ لدى شافيز أحزاب تمثل قوى وشرائح اجتماعية تساند القوى الليبرالية الفنزويلية، وكادت أن تسقطه في الانتخابات الأخيرة. إنها الأكثرية الفنزويلية! بشقيها الشافيزي والضد شافيزي. لأنها قبلت بعضها أولا وقبلت بالديموقراطية حكما بينها، وأصبحت بذلك الدولة الفنزويلية دولتها! هل بالضرورة إذا كنت اختلف عنك، يجب دوما أن يكون هنالك ما اختلف به معك! أليس المسيحي مثل المسلم يحب أن يكون لديه حرية القول! في هذه الأكثرية الاجتماعية، التي تقبل الديمقراطية حكما وحكما. يمكن أن يكون فيها قومي عربي وقومي كردي، يمكن أن يكون فيها علماني متشدد! وإسلامي متشدد! لأن الإسلاميين المتشددين في سورية، يرى أكثريتهم أنهم يستندون إلى الأكثرية العددية الساحقة للمسلمين! بينما العلمانيون المتشددون! لا يرون ما يستندون إليه سوى تنويعات علمانوية على سلطة لا علمانية! لهذا هم الآن يحملون راية رفض الديموقراطية التوافقية، بحجة أنها أميركية في العراق، ولبنانية أثبتت عقمها ومأساويتها! من هو الذي يطرح مفهوم الديموقراطية التوافقية؟ ومن الذي أجبر السادة في المعارضة العراقية سابقا على إنتاج مفهوم الديموقراطية التوافقية؟ هل هم الأميركيون؟ ألم يكن للتدخلات الإقليمية المعادية للديموقراطية في العراق! دور مركزي في تكريس نموذجا ليس توافقيا بل نموذجا قابلا للانفجار السياسي في كل لحظة؟ هل من مصلحة إيران مثلا قيام ديموقراطية مبنية على أكثرية اجتماعية؟ أما أن نرمي كل الحمل على أميركا فإن الأمر هو مدعاة للريبة في الحقيقة؟ هل الأميركان هم الذين يقسمون إقليم كردستان العراق حزبيا وعشائريا؟ أم أنه مقسوم من أيام الدعم الإيراني- السوري للمعارضة العراقية؟! وهل الأميركان هم من طرحوا في البداية الفيدرالية لإقليم الجنوب العراقي؟ إذن إن الحديث عن خطر الديمقراطية التوافقية الأمريكية! هو حديث ليس له ركائز في الواقع السياسي! خاصة السوري منه، لأن الصراحة تقتضي من أصحاب وجهات النظر هذه السؤال: هل تقبل الأكثرية السنية أو العربية في سورية بديموقراطية توافقية؟ ومن يمثل هذا القبول وهذا الرفض؟ أما إذا كان التلميح عن مطالب بعضا من الحركة الكردية في سورية، فإن الأمر يحل ببساطة! أعطي هؤلاء الكرد حقوق مواطنة كاملة، وبعدها نرى إن كانوا سيبقون مصرين على الديموقراطية التوافقية- التي يريد الأميركان فرضها حسب الإدعاء، أم لا؟ حبذا لو أننا نتخلص من هذا التأرجح، في الأحاديث عن ديموقراطية وطنية بلا ليبرالية وديموقراطية أميركية غير وطنية! بالتأكيد إن ما نطرحه هنا حول مفهوم الأكثرية الاجتماعية الجديدة، يحتاج إلى تنمية حوارية ومفاهيمية، ربما يسمح لنا الزمن بالعودة إليها. * كاتب سوري.