ليس سراً أن ثمة تمازجاً ثقافياً عربياً - كردياً يمتد لقرون بفعل عوامل الجغرافيا والتاريخ والدين وغيرها من المشتركات بين الثقافتين – الشعبين، لا سيما في العراق وسورية (الدولتين اللتين تضمان جزءين من كردستان)، ولبنان ومصر والأردن حيث ثمة وجود كردي ملحوظ نتيجة هجرات كردية الى البلدان الثلاثة المذكورة. ففي لبنان يعيش نحو مئة ألف كردي لبناني وآلاف من المواطنين الأردنيين والمصريين من أصول كردية، ومنهم مبدعون كبار في شتى حقول الابداع الثقافي في العالم العربي وفي تلك الدول تحديداً حيث تشتهر عائلات وبيوتات معروفة وكان لها حضورها الاجتماعي والثقافي البارز. وبديهي أن التأثر بالثقافة العربية والاسهام الأكبر فيها كان من الجانب الكردي نتيجة كون العربية لغة القرآن واللغة الرسمية السائدة في سورية والعراق قبل سقوط نظام صدام، حيث الكردية الآن لغة رسمية الى جانب العربية في العراق. الا أن التأثير والتأثر لطالما كانا قائمين بين الثقافتين. ففضلاً عن أن ملايين الأكراد في العراق وسورية يتقنون العربية فإن ثمة عرباً عراقيين وسوريين بخاصة من القاطنين في المناطق الكردية في كلا البلدين يتحدثون الكردية وبطلاقة بفعل التجاور والتعايش والتزاوج. ولعل حال التوجس والتباعد التي سادت إنْ سياسياً أم ثقافياً لعقود بعيد الاستقلالات في العراق وسورية، هي نتاج فرض نموذج الدولة المركزية القامعة للتعدد والرافضة الاقرار بالوجود التاريخي الجغرافي للأكراد، بخاصة بعد قيام الأنظمة العسكرية القوموية في كلا البلدين. فالرؤى العنصرية حيال الأكراد سرعان ما ألبست لبوساً ثقافوياً وأخذت تطبق سياسات محو وتشويه ثقافيين بحق الشعب الكردي عبر حظر لغته وثقافته وتسفيههما. والشرخ الحاصل على مختلف الصعد في العلاقة العربية - الكردية بفعل الممارسات البعثية حيال كردستان وشعبها، تقتيلاً وتعريباً وتبعيثاً وصهراً قومياً، حان الآوان لترميمه واعادة بناء التواصل والتلاقح الثقافيين كمدخل لتكريس أرضية التعايش والتسامح. ورغم مضي نحو عقد على زوال البعث وقيام عراق ديموقراطي توافقي واتحادي فإن المستوى الثقافي في معمار العلاقة العربية - الكردية بقي مهملاً وضامراً في العراق الذي هو البلد الوحيد بين البلدان المقتسمة لكردستان الذي اعتمد حل القضية الكردية وفق حق الشعب الكردي في تقرير مصيره في اطار اتحاد فيديرالي. فهذا الانجاز التاريخي الذي هو بمثابة نموذج ومثال لحل القضية الكردية في عموم المنطقة بقي قاصراً لجهة جوانبه وتجلياته الثقافية. وهذا ما ترك تأثيره على الخطاب الثقافي والسياسي السائد المتحامل بل المعادي لكل ما هو كردي (أنظر الموقف الثقافي وحتى الشعبي العربي العام خارج العراق من مجزرة حلبجة مثلاً). وعليه فإن الشروع في تكريس مناخات انفتاح وتبادل ثقافية صحية بين العرب والأكراد في العراق بخاصة وفي سورية، وتالياً المحيط العربي ككل، بات مهمة عاجلة لا تحتمل التسويف. ولئن شرعت حكومة اقليم كردستان العراق قبل سنوات في محاولة ترميم هذه العلاقات فإنها مع الأسف لم تكن تلقى صدى ايجابياً تفاعلياً من الطرف الآخر ان على الصعيد العربي العراقي أو العربي العام. والحق أن الثقافة الكردية تعتبر من أقدم الثقافات فى العالم وأعرقها، وهي جزء أصيل من الثقافة العراقية المتكونة عبرالعصور والحقب التاريخية المختلفة بفعل تفاعل الحضارات في بلاد ما بين النهرين: البابلية والأشورية والكردية مما سهل التواصل بينها. لكن تراجع دورها في العراق، والذي أدى الى تراجع الثقافة العراقية عامة، انعكس تالياً سلباً على الثقافة العربية ككل. وهنا يظهر مدى ضرورة دور المؤسسات والنخب الثقافية والإعلامية العربية في تسليط الضوء على هذه الحقيقة بما يكسرالحاجز النفسي الذي أوجده خصوصاً النظام العراقي البائد. فالثقافة الكردية بتقاليدها الحضارية الخاصة انعكست على الثورات الكردية في مختلف أجزاء كردستان، وليس في كردستان العراق فقط. فالثورة الكردية لها طابع خاص مخالف لما يحدث في الثورات العربية الآن، والتي ربما حان الوقت كي نتحفظ عن اطلاق وصف الثورات عليها بعد تحولها الى ما يشبه الاحترابات الأهلية والطائفية وهيمنة تيارات الاسلام السياسي عليها بما يهدد باعادة انتاج الاستبداد، وهو ما يتضح بشكل خاص في الحالة السورية. إن تفعيل التواصل المعرفي الثقافي بين العرب والأكراد شرط شارط، والحال هذه، لتجاوز النمطية السائدة حول الثقافة الكردية، والتي تضعها في دائرة الإتهام والإنعزالية التي أنشأتها وغذتها أنظمة ديكتاتورية على شاكلة البعث العراقي الساقط. وإذا ما كانت السياسة تفرق فإن الثقافة يمكن لها أن توحد، بخاصة إذا ما أديرت دفتها بتبصر ومراس ورحابة أفق. * كاتبة عربية وكاتب كردي