تقوم العلاقات الإيرانية - الصينية الراهنة على معادلة تبدو بسيطة: مقايضة السلع والخدمات والتكنولوجيا الصناعية الصينية، في مقابل النفط والغاز الطبيعي من إيران. لكن هذه المبادلة التي تبدو اعتيادية تختلف جذرياً عن غيرها من المبادلات التجارية بين الدول، بسبب تداعياتها المباشرة على النظام الدولي. ويعود ذلك إلى أن الصين أصبحت منذ عام 1993 للمرة الأولى في تاريخها الطويل مستورداً صافياً للطاقة، حتى أنها صارت، بمرور الوقت، تنافس الولاياتالمتحدة الأميركية على قمة الدول المستوردة للطاقة في العالم. ويدفع هذا التحول، التنين الصيني المتعطش إلى موارد الطاقة والمنعزل في الشرق الأقصى، إلى طرق أبواب الشرق الأوسط متأخراً. وعلى خلاف الأدوات الروسية للنفاذ إلى معادلات المنطقة وأهمها السياسة الخارجية ومبيعات السلاح، فإن الصين تدخل الشرق الأوسط حالياً عبر التجارة واتفاقات الطاقة الضخمة. وهنا ينفتح الباب واسعاً أمام تعاون إيراني - صيني بسبب الرغبة الصينية المعلومة"والحاجة الإيرانية الواضح إلى الاستفادة من الصين كثقل مواز للولايات المتحدة الأميركية في المواجهة المحتدمة بسبب الملف النووي. وتتعزز أهمية إيران، رابع أكبر منتج للنفط وثاني أكبر منتج للغاز الطبيعي في العالم، لدى الصين بسبب طبيعة النموذج الاقتصادي الصيني. والأخير يعتمد على التصدير وعلى تحقيق معدلات عالية من التنمية والتشغيل للمواطنين الصينيين، ما يشترط ? ابتداءً - تأمين الطلب المتزايد على الطاقة. ولأن بكين تسعى إلى تنويع مصادرها من الطاقة، وفي شكل يجعلها لا تعتمد على نفط الشرق الأوسط فقط، فإنها تدعم مواقعها في آسيا الوسطى حتى تستطيع النفاذ إلى منطقة بحر قزوين. وتقدم الجغرافيا الإيرانية لها المزيتين معاً: حقول الجنوب الإيراني المطلة على الخليج تؤمن جزءاً معقولاً من نفط الشرق الأوسط، أما الشمال الإيراني فيمنح بكين فرصة الإطلالة الممتازة على بحر قزوين الغني بالطاقة هو الأخر. هكذا أصبحت الصين الغطاء الدولي لإيران في مجلس الأمن منذ احتدام الأزمة النووية، التي ترافقت مع إبرام الصفقات الضخمة في قطاع الطاقة بين بكينوطهران، والتي بلغت حوالى مئة وعشرين مليار دولار، إذ صارت الصين الرابح الأول من الأزمة النووية الإيرانية حتى الآن. تستند العلاقات الصينية - الإيرانية إلى جذور ضاربة في التاريخ، إذ بدأت في عصر الإمبراطور الصيني هان الذي أقام علاقات تجارية مميزة مع مملكتي البارثيين والساسانيين في إيران. ولعب طريق الحرير، الذي يمر عبر إيران واصلاً إلى الصين، دوراً أساسياً في ازدهار العلاقات التجارية والثقافية بينهما وخلق روابط متشابكة من المصالح الاقتصادية والإستراتيجية طوال قرون خلت. وبعد فقدان طريق الحرير أهمية التجارية، تراجعت العلاقات بين البلدين لتصبح علاقات تاريخية فقط. واستمرت الحال هكذا حتى فترة الحرب الباردة، حيث تغلبت التحالفات الدولية لإيران مع الغرب والولاياتالمتحدة الأميركية على الاعتبارات التاريخية للعلاقات مع الصين. وبانضمام إيران إلى حلف السنتو عام 1955، واعترافها بعد ذلك بسنة واحدة فقط بتايوان"جمهورية الصين الوطنية"، أخذت بكين تنظر إلى طهران باعتبارها جزءاً من النظام الأمني العالمي للغرب. واعترفت الصين بحركة تأميم النفط الإيراني التي قادها الزعيم الوطني الإيراني محمد مصدق في الفترة من 1951 إلى 1953. وبدأت صادرات النفط الإيرانية في التدفق على الصين في الستينات من القرن الماضي، ولم يشذ الشاه السابق كثيراً عن التصورات الإيرانية القومية، إذ حاول باستمرار توسيع هامش المناورة الدولية لبلاده عبر تعميق العلاقات مع الصين. لذلك اعترف الشاه في العام 1971 بجمهورية الصين الشعبية ممثلاً وحيداً للصين، وأتبع ذلك بإقامة علاقات دبلوماسية كاملة معها. ثم أصبحت إيران قلعة مهمة من المنظور الصيني لمنع تغلغل موسكو إلى منطقة الخليج، على خلفية تنامي الخلاف السوفياتي - الصيني في سبعينات القرن الماضي. وهكذا زاد التبادل التجاري بين البلدين بحدود معقولة، وتدفقت المساعدات الاقتصادية الإيرانية للصين، إذ سمحت تقديرات البنك الدولي وقتذاك باعتبارها دولة عالمثالثية فقيرة!. ويعود تقدير البنك الدولي المذكور إلى تقديم عامل متوسط الدخل السنوي للفرد على ما سواه من عوامل، كمؤشر رئيس على حالة الاقتصاد. انقلب وضع العلاقات الصينية - الإيرانية في ثمانينات القرن المنصرم بسبب أربعة اعتبارات، وهي: التوجهات السياسية الداخلية للزعيم الصيني دينغ شياو بينغ الخاصة بإطلاق عمليات التحديث والطلاق مع"الثورة الثقافية"التي فرضها ماو تسي تونغ، بالترافق مع التغيير في السياسة الخارجية الصينية باتجاه واشنطن وصولاً إلى تطبيع العلاقات معها. وفي المقابل دشنت الثورة الإيرانية عودة متعاظمة لدور الدولة في التحكم بالاقتصاد، وأفسح النظام السياسي الجديد المجال أمام أيديولوجيا معادية للولايات المتحدة. ما أطلق توجهاً داخلياً طبع سياستها الخارجية على نحو غيَّر ملامح العلاقات الأميركية - الإيرانية: من تحالف استراتيجي إلى عداوة مستحكمة. وسببت التحولات سياستهما الداخلية والخارجية في الصينوإيران، تصادماً في أولويات السياسة الخارجية. وفي هذا ما يفسر دعم الصين موقف واشنطن، عند احتلال السفارة الأميركية في طهران 1979، باعتباره عملاً ينتهك القانون الدولي. وصوتت بكين في مجلس الأمن لمصلحة القرار الذي يطالب بإطلاق الرهائن فوراً، لكنها امتنعت وقتذاك عن التصويت على مشروع القرار الذي ارتأى فرض عقوبات اقتصادية على طهران!. ثم استغلت بكين الحرب العراقية - الإيرانية لتحفظ موطئ قدم لها في إيران عبر صادراتها من السلاح، والتي بموجبها صدّرت الصين إلى إيران أنظمة من الصواريخ الباليستية شكلت الأساس التاريخي لبرامج إيران الصاروخية. إذ زودت الصين عام 1987 إيران بصواريخ سيلك وورم دودة القز المضادة للسفن والتي يمكنها إغلاق مضيق هرمز، وهي أهم أوراق إيران الردعية. حصلت إيران بعدها من الصين على أنظمة صواريخ مضادة للسفن من طراز سي- 802 ذات الكثافة النيرانية العالية والدقة النسبية في إصابة الأهداف. كما قدمت الصين مساعدات إلى إيران في مجال التصنيع والتطوير والتكنولوجيا وصولاً إلى بيع الصواريخ، فضلاً عن المساهمة لاحقاً في البنية التحتية الصناعية لصواريخ شهاب -3 وشهاب - 4. لذلك عمدت وزارة الخزانة الأميركية إلى فرض عقوبات على شركات سلاح صينية، يعتقد بأنها ورّدت لإيران قطع الغيار والتكنولوجيا الخاصة بالصواريخ من طراز فاتح - 110 وأنظمة الصواريخ من طراز فجر. ومع ذلك جاءت الصين في المركز الثاني بعد روسيا في توريد السلاح إلى إيران طوال الفترة من 1995 إلى 2005، إذ ورّدت 18 في المئة فقط من حاجات إيران من السلاح، لكنها قدمت خبرات علمية نادرة لمصانع السلاح الإيرانية. وبعد نهاية الحرب العراقية - الإيرانية، ظهرت المشاكل الاقتصادية في إيران وتعمق الاختلال في اعتمادها على النفط لتمويل وارداتها الضرورية وتحقيق استثماراتها الداخلية. وهنا ظهرت الصين شريكاً تجارياً محتملاً، وبسبب فشل محاولات إيران توسيع نفوذها في آسيا الوسطى، وقطع"الحوار الانتقادي"بين الاتحاد الأوروبي وإيران، عادت السياسة الخارجية الإيرانية لتتوجه نحو الشرق عموماً والصين خصوصاً، مترافقاً ذلك مع فتور في العلاقات السياسية بين الصين وأميركا على خلفية أزمة تايوان، التي عادت إلى الظهور 1995-1996 لترخي بسدولها على العلاقات بينهما، وهو ما أثر إيجاباً في العلاقات الصينية - الإيرانية. ويرجع الطموح الإيراني الحالي في الانتقال بعضويته في"منظمة شنغهاي"تضم الصينوروسيا ودول آسيا الوسطى من عضو مراقب إلى عضو كامل الصلاحية، إلى اكتساب غطاء دولي في مواجهة تصاعد التهديد من الولاياتالمتحدة الأميركية. تأسيساً على ذلك أثبتت واشنطن أنها، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى الآن، عامل محدد في تقارب بكينوطهران وتباعدهما. أو بمعنى آخر"العنصر الثالث"في معادلة العلاقات بين بكينوطهران، على ما يذهب جون كالابريز أستاذ العلاقات الدولية الأميركي. الصين في العقل السياسي الإيراني تتشابه منظومة القيم والصور النمطية عن الذات والآخر لدى النخب الحاكمة في طهرانوبكين، إذ تسيطر صورة الضحية على الوعي الجمعي لكليهما، ويؤلف بينهما الإدراك المتشابه ل"الدور التاريخي المستحق"في الجوار الجغرافي، ويجمعهما الحرص على الاستقلال أمام الخارج، ذلك المرتبط - في مخيلتهما الشعبية والنخبوية - بالأطماع والغزو ومحاولات الهيمنة. وينعكس هذا التشابه في تقارب نموذج"الشعور القومي"في كل من الصينوإيران، الذي تتم ترجمته على صعيد السياسة الخارجية في الرغبة في لعب دور على الساحة الدولية، ومواجهة النظام الدولي الحالي بما يعنيه ذلك من إعادة بعث"العالم الثالث". وإذ يصنف التيار القومي- الإسلامي في إيران، أوروبا بوصفها مجرد مورد للتكنولوجيا الحديثة، وليس باعتبارها شريكاً تجارياً استراتيجياً، فإن العقل الأيديولوجي الإسلامي السائد في إيران يعتبر الصين نموذجاً لما يسميه"دولة الرخاء القوية"، مع إجراء تعديل شكلي تستبدل بمقتضاه"الديموقراطية الإسلامية"ب"الشيوعية الصينية"، ويرتقي موقع بكين في المخيلة السياسية الإيرانية لتصبح حليفاً محتملاً على الساحة العالمية. وعلى النقيض من ذلك يصنف العقل التكنوقراطي الإيراني ? ما زال حاضراً في مفاصل الدولة -، كلاً من الصينوالهند، على أنهما موردان من الدرجة الثانية للتكنولوجيا الحديثة، كما يعتبر التوجه الشرقي لإيران خطأ استراتيجياً يجعلها تتخلف عن مسيرة التقدم التكنولوجي في العالم. أما المنطق الاستراتيجي الإيراني - الحاضر ولكن غير النافذ حالياً - فيقبل بالصين حليفاً فقط من منظور استعمال حق النقض الصيني في مجلس الأمن لحماية إيران، والحصول على منافع اقتصادية مثل صفقات الطاقة الضخمة معها. تحتل إيران موقعاً مركزياً في سلم الأولويات الصينية، بسبب تضافر الجيوبوليتيك وتأمين الواردات من الطاقة. والعامل الأخير يحتل رأس أولويات الأمن القومي الصيني منذ عام 1993 على الأقل، إذ أصبحت الصين في ذلك العام مستورداً صافياً لموارد الطاقة. وبتعاظم معدلات التنمية زادت الحاجات الصينية من الطاقة بنسبة 230 في المئة خلال فترة ربع قرن فقط 1980 - 2004. كما أن إيران منتج ضخم للطاقة وسوق كبيرة لتصريف المنتجات الصينية اللازمة لإدامة معدلات التنمية المرتفعة، والتي تشكل الأساس لنموذجها الاقتصادي الحالي. ويسمح التحالف مع إيران بتسهيل المهمة الصينية في دخول الشرق الأوسط المهم في الإستراتيجيات العالمية، وفك عزلة الصين عنه. ونظرة متأنية على خريطة الشرق الأوسط وغرب آسيا تكشف بوضوح أن إيران هي الحليف شبه الوحيد للصين في هذه المنطقة، التي تؤمن 45 في المئة من وارداتها النفطية. كما تنظر الصين إلى إيران باعتبارها المطل المائي المحتمل في الخليج للأسطول الصيني الضخم، وهو المطل المفيد تجارياً وجيوبوليتيكياً. وتتعزز هذه الفرضية بملاحظة أفضلية القرب الجغرافي للصين ? مقارنة مع أميركا مثلاً - من القوس الجغرافي الحاوي حوالى 71 في المئة من احتياطات النفط عالمياً، وحوالي 69 في المئة من احتياطات الغاز الطبيعي. ويشمل هذا القوس الجغرافي روسيا، وآسيا الوسطى، وإيران والعراق، والسعودية، ودول الخليج العربية. ويسمح هذا القرب الجغرافي للصين بإحراز الأفضلية في التسابق على موارد الطاقة مع واشنطن مستقبلاً، شريطة أن يكون لها موطئ قدم توفره إيران بموقعها الجغرافي في قلب القوس المذكور. تملك إيران مزايا فريدة ? من منظور الأمن القومي الصيني-، فسكانها يمثلون 1 في المئة فقط من سكان العالم، لكنها في المقابل تمتلك 10 في المئة من الاحتياط النفطي المؤكد عالمياً، وهي رابع أكبر منتج للنفط في العالم. ولا تقتصر أهمية إيران على ذلك فقط، فهي تملك في الوقت ذاته 16 في المئة من الاحتياط المؤكد من الغاز الطبيعي عالمياً، ولأن إيران تنتج 6.2 مليون برميل من النفط يومياً، تستهلك منها 3.6 مليون برميل يومياً، فإنها تصدر 2.6 مليون برميل يومياً، وهي الكمية اللازمة للاقتصاد الصيني الأخذ في النمو. ووفقاً لهذه الأرقام، التي حققها الباحث الإيراني لدى جامعة هارفارد عباس مالكي، فمن الممكن أن تستمر إيران في إنتاجها الحالي من النفط مدة تزيد عن أربعين سنة، إذ يبلغ احتياطها 130 بليون برميل من النفط. ومن الممكن لإيران أيضاً أن تنتج أيضاً 500 بليون متر مكعب من الغاز الطبيعي سنوياً مدة خمس وخمسين سنة، على حساب احتياطها من الغاز الطبيعي البالغ 27 تريليون متراً مكعباً. تأسيساً على هذه الخلفية تتمثل أهم المشاريع المشتركة حالياً بين الصينوإيران في مشروعين كبيرين ومشروعات صغيرة لبناء خطوط أنابيب تصل شمال إيران بجنوبها. المشروع النفطي الأكبر هو يادفاران للاستكشاف والإنتاج والتطوير، تم الاتفاق عليه 2004 وتم التوقيع عام 2006، عام تحويل إيران إلى مجلس الأمن. تبلغ قيمة الصفقة حوالى 100 بليون دولار أطلق عليها صفقة القرن لضخامتها، أما الاحتياطات المؤكدة فتقدر بحجم يبلغ 17 بليون برميل. من المتوقع أن يبدأ الإنتاج عام 2009 بطاقة تبلغ في البداية 150 ألف برميل يومياً على أن تتضاعف لاحقاً لتبلغ 300 ألف برميل يومياً. تستحوذ الصين نصيب الغالبية في العقد بمقدار 51 في المئة، في مقابل 25 في المئة هي حصة الهند، وتبلغ حصة شركة شل 20 في المئة. أما المشروع المشترك الأكبر في مجال الغاز الطبيعي فهو إنتاج الغاز المسال من حقول بارس الجنوبية على مدار 30 سنة، وبقيمة 70 بليون دولار، ويبدأ الإنتاج عام 2009 بطاقة 270 مليون طن سنوياً. أولويات الصين النفطية 1- التنقيب عن النفط والغاز الطبيعي خارج الحدود الصينية، خصوصاً في المناطق التي لا تشهد منافسة دولية اقتصادية ساخنة مثل إيران والسودان. 2- العمل على تنويع المعروض من موارد الطاقة لتوسيع هامش المناورة. 3- تكوين احتياطات إستراتيجية نفطية كبيرة لمواجهة أزمات الطاقة الطارئة. 4- السعي نحو تقليل الطلب على موارد الطاقة، بالاستفادة من التكنولوجيا وضغط الاستهلاك المحلي. 5- الوصول إلى المعدلات القصوى للإنتاج المحلي من الفحم والطاقة النووية والطاقة المولدة من المياه، وغيرها. 6- تأميم شركات النفط الصينية لضمان التناغم التام مع التخطيط الإستراتيجي الخاص بتوفير الحاجات المتزايدة من الطاقة بأسعار معقولة. وبإمعان النظر في الأولويات الصينية النفطية يمكن ملاحظة توزعها على ثلاث أولويات داخلية، وهي الأولويات الرابعة والخامسة والسادسة، ومثلها خارجية تنطبق كلها على التعاون الصيني الحالي مع إيران في مجال الطاقة. السلوك الصيني المتوقع في مجلس الأمن يعبر السلوك التصويتي لدولة إزاء قضية ما بدقة عن توجهاتها، ولأن التوجهات ترتكز على مصالح محددة، فإن التصورات الخاصة بالسلوك تنبني على هدف حماية هذه المصالح. استفادت الصين حتى الآن من الحصار السياسي والاقتصادي الأميركي المضروب على إيران، وتجلت فائدتها في قطاع الطاقة الذي دخلته الشركات النفطية الصينية من أوسع أبوابه. كما أدت الإصلاحات الاقتصادية المتتابعة في إيران والخاصة بتخفيف القيود على الاستثمارات الأجنبية، بالترافق مع تركز السلطة في يد المحافظين، الذي يعني استقراراً سياسياً من المنظور الصيني، إلى إيجاد إطار مناسب للمصالح الصينية في إيران. وينبغي بالإضافة إلى ذلك ملاحظة ذلك التناسب الطردي في التصاعد بوتيرة انخراط الصين في قطاع الطاقة الإيراني، مع ازدياد الضغوط الأميركية على طهران وحاجتها للصين كغطاء دولي. صوتت بكين حتى الآن مع الإجماع الدولي في مجلس الأمن على القرارين 1737 و1747، اللذين يتضمنان عقوبات اقتصادية متدنية السقف ضد طهران. وفي الوقت نفسه تسببت المعارضة الصينية والتلويح بحق النقض في تعديل مشاريع القرارات الأميركية المعروضة على مجلس الأمن، والتي تحيل على الفصل السابع من ميثاق الأممالمتحدة، ونقحت بكين بانتظام هذه المشاريع قبل طرحها على التصويت. ولأن الصين لا ترغب في مواجهة واشنطن مباشرة فهي تترك لروسيا الدور الأكبر في مواجهة الرغبات الأميركية في مجلس الأمن، وتشكل معها كتلة المعارضة في المجلس، التي يتلخص خطها الأحمر بتوجيه ضربة عسكرية ضد طهران. وبسبب موقع الصين الجغرافي البعيد نسبياً في شرق العالم، فإنها لا تريد أن يتسبب الملف النووي الإيراني في عزلتها دولياً باعتبارها منحازة. ويتأكد هذا الاعتبار عند ملاحظة أن موسكو ترتبط مع إيران بالقرب الجغرافي من الجنوب، ومع أوروبا من الغرب، وبالتالي فإمكانات عزلها دولياً أكثر من صعبة مقارنة بالصين. ينبع السلوك التصويتي الصيني من ثلاثة عوامل متداخلة ومتعارضة في آنٍ معاً، يتمثل العامل الأول في تبني مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول والحفاظ على سيادتها الوطنية. وهو مبدأ أخلاقي يحجب هدفاً سياسياً ملخصه عدم الإخلال بإمدادات الصين من طاقة الشرق الأوسط، ويصب بالتالي في مصلحة إيران. وتكتسب إيران أهمية استثنائية للصين عند إجراء حساب مجرد للثروة الإيرانية من موارد الطاقة مقومة بأسعار شهر تشرين أول أكتوبر الجاري، والنتيجة الحسابية هي ثلاثة تريليونات ونصف تريليون ثلاثة آلاف وخمسمئة بليون من الدولارات. وهذا الرقم الضخم يعني أن التعاون بين البلدين لم يبلغ قمته بعد، إذ يمكن بقرار سياسي إيراني أن يتضاعف رقم التعاون الحالي - البالغ حوالى 120 بليون دولار- في السنوات المقبلة. ولا تفوت في هذا السياق ملاحظة تطور مهم هو أن إيران كانت حتى عام 2005 تصدِّر ما يقارب 14 في المئة من حاجات الصين من الطاقة، لكن مع منتصف العام 2006 الذي صدر فيه أول قرار من مجلس الأمن يفرض عقوبات اقتصادية على طهران، أصبحت الأخيرة المورّد الأول للطاقة إلى الصين. أما العامل الثاني فهو عامل المسؤوليات الدولية للصين كعضو دائم في مجلس الأمن يملك القدرات النووية، والمنطقي منه أن يحاول فرض المعاهدة الخاصة بمنع انتشار الأسلحة النووية. وهنا بالتحديد تتفق بكين مع واشنطن في هدف منع إيران من امتلاك الأسلحة النووية، وتلتقي في ذلك مع مخاوف الدول العربية النفطية التي تستورد الصين حاجاتها النفطية منها أيضاً. لذلك تبنت الصين دعوة إخلاء الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل، والتي أعاد التأكيد عليها منتدى الحوار العربي- الصيني الذي عقد في بكين السنة الماضية. يتلخص العامل الثالث المتحكم في السلوك التصويتي الصيني في المناورة بين واشنطنوطهران وتأجيل لحظة المفاضلة بينهما لأطول فترة ممكنة. ويعتقد دينجلي شين الخبير الصيني في الشؤون الأميركية أن لحظة المفاضلة ستكون قاسية على الصين، بسبب مصالحها الاقتصادية الضخمة مع واشنطن قطب النظام الدولي الوحيد، في الوقت الذي تضغط حاجتها المتعاظمة إلى موارد الطاقة الإيرانية على صانع القرار فيها. يقتضي المنطق والتحليل استبعاد سيناريوين من قائمة الخيارات الصينية: السيناريو الأول أن بكين ستؤيد ضربة عسكرية لإيران تدمر خلالها حقول النفط والغاز التي استثمرت فيها عشرات البلايين وتخطط لاستثمار مئات البلايين فيها في السنوات القادمة. والثاني أن بكين ستتواجه عسكرياً مع واشنطن من أجل حماية إيران من هجوم أميركي عليها، وكلا السيناريوين مستبعد في منطق المصالح الصينية. لذلك تناور بكين ديبلوماسياً من دون أن تتهم بالوقوف في صف واشنطن أو طهران حتى الآن، لكن، مع تصاعد وتيرة التصعيد في الملف النووي الإيراني ستقترب لحظة الخيار التي لا تستطيع عندها بكين الاستمرار في المناورة بين الطرفين. وهنا ستلعب عوامل ثانوية دورها في حسم المفاضلة الصينية بين شريكها التجاري الأول واشنطن وبين المورد الأول للطاقة إليها، إيران، إذ ربما ستذهب دارفور مؤشراً إلى إدارة بكين صراعها مع واشنطن والأقطاب الدولية على موارد الطاقة، لأن فقدان الصين امتيازاتها النفطية هناك سيدفعها أكثر وأكثر إلى التمسك بإيران. وبالتوازي مع ذلك تتحرك السياسة الصينية، وهي محكومة بعلاقة طردية، مفادها أنه كلما مضى الوقت ازداد البرنامج الإيراني مناعة، ودعم الصين أيضاً. ويتوقع في ضوء المعطيات الحالية أن تقوم طهران في الشهور القادمة بمنح الصين مزايا إضافية في قطاع الطاقة، للتأثير في خيارات بكين المحدودة أصلاً بفعل حاجاتها المتعاظمة إلى موارد الطاقة الإيرانية. وإذ يهيئ العطش الصيني إلى موار الطاقة الإيرانية من نفط وغاز الأرضية المناسبة لعلاقات ثنائية ممتازة بين بكينوطهران، فإن الأخيرة تروي هذا العطش وفق مقدار وتوقيت يسمحان لها بتوظيفه سياسياً لمصلحتها في الملف النووي... إلى الآن على الأقل. * كاتب مصري خبير في الشؤون الإيرانية والتركية.