زيارة الرئيس الصيني هو جينتاو الأسبوع الماضي للولايات المتحدة هي الأولى له منذ وصوله إلى السلطة عام 2003، وهي تأتي في ظل تصاعد الأزمة النووية الإيرانية وما يرافقها من ارتفاع قياسي لأسعار النفط ، إضافة إلى الخلافات والتوترات، التقليدية والناشبة، في العلاقات الأميركية - الصينية التي تتأرجح بين المصالح الاقتصادية الكبيرة المتبادلة والمخاوف الاستراتيجية المستمرة. وتشكل الصين، في منظور الاستراتيجيين الأميركيين، التحدي الأكبر للولايات المتحدة في القرن ال21. فبعدما اضطرت أميركا في النصف الثاني من القرن العشرين لمواجهة منافسين في المجال الاقتصادي اليابان وألمانيا وغيرهما، وأعداء في المجال السياسي - العسكري الاتحاد السوفياتي السابق، تواجه اليوم قوة عظمى صاعدة تحوز القوتين السياسية - العسكرية والاقتصادية في آن. وهدفت القمة الأميركية - الصينية الأخيرة إلى"تنظيم"التنافس بين البلدين على الساحة الدولية، في ضوء اصطدام طموحاتهما السياسية والاقتصادية لا سيما في منطقة الشرق الاوسط والخليج. فالصينوروسيا، العضوان الدائما العضوية في مجلس الأمن، لا تزالان ترفضان فرض عقوبات على طهران بسبب برنامجها النووي. وتتموقع بكين خلف موسكو في هذه القضية دفاعا عن مصالحها الاقتصادية في إيران. وإلى وقت قريب بدا البلدان على غير اتفاق مع اوروبا والولاياتالمتحدة في ما يخص البرنامج النووي الإيراني. ويعود تميزهما هذا إلى أسباب تخص كل منهما على حدة، لكنها مرتبطة في كل الأحوال بعلاقات التبادل مع طهران. فالصين على تعاون مع إيران منذ فترة طويلة، خصوصا في ميدان الصواريخ الباليستية البعيدة المدى، وهناك آفاق واسعة للعلاقات الثنائية في المستقبل القريب، في ظل حاجة طهران الى الخبرات الصينية في تشييد البنى التحتية. كما ان حيازة إيران السلاح النووي لا يزعج بكين، مثلما هي الحال بالنسبة الى موسكو. لذا لم تقدم الديبلوماسية الصينية على أي خطوة من شأنها تعكير صفو العلاقة مع طهران. الانتقادات الأميركية للصين في المجال الاقتصادي أصبحت الصين منذ عام 1993 مستورداً كبيراً للذهب الأسود. فهي تشتري ثلث حاجاتها من الخارج، ويتوقع ان يرتفع المعدل إلى 50 في المئة عام 2020، وإلى 80 في المئة عام 2030. ويضع ذلك الصين في حال فقدان للأمن الاستراتيجي، ما دام الشرق الوسط يشكل مصدر ثلثي هذه الواردات. زد على ذلك حال عدم الاستقرار التي تعاني منها المنطقة، اذ ان النفط يصل الى الصين عبر الطرق البحرية التي تفصل بين شنغهاي ومضيق هرمز الواقع تحت سيطرة قوات البحرية الأميركية. وهذا ما يزيد من حماسة بكين للفكاك من ربقة"الحصار"الأميركي، عبر إقامة علاقات وثيقة مع دول نفطية لها حساسيتها الخاصة تجاه واشنطن، لفتح مزيد من نقاط العبور إلى ممرات آسيا الوسطى الآمنة. وفي هذا الصدد تقدم إيران ورقة رابحة مزدوجة: ففي عام 2004، وقع البلدان اتفاقا تشتري بكين بموجبه ما قيمته 70 بليون دولار من الغاز والنفط على مدى 30 عاما. ومن هذا المنطلق سيساهم الصينيون في استثمار آبار يادفاران الواقعة قرب الحدود العراقية، كما تأمل بكين في أن تشارك في مشروع خط الأنابيب مروراً بإيران وحتى بحر قزوين، ليمكنها لاحقًا الاتصال مع خط الأنابيب الآخر الذي يربط كازاخستان بالصين الغربية. وقد أحيا الاتفاق الأميركي لآسيا الوسطى مخاوف بكين حيال الطرق القارية البديلة، يغذيها قلق الصينيين من الوقوع بين فكي كماشة من الشرق والغرب. من هنا عملت بكينوطهران اللتان تواجهان الإستهداف نفسه على تصليب جبهتيهما في مواجهة الاندفاع الأميركي في المنطقة. في مثل هذه الظروف لم تكن مستغربة معارضة بكين لفرض عقوبات على طهران، فيما تعتبر أوساط الادارة الاميركية أن الموقف الصيني ساهم في زيادة حدة التوتر في منطقة الخليج وشجع ايران على تصليب مواقفها، ما ساهم بدوره في رفع أسعار النفط الى مستويات قياسية فلامس سعر البرميل 75 دولارا. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل تواصل الصين حماية إيران حتى ولو أدى التحدي النووي الإيراني إلى أزمة دولية حادة؟ ولا تقتصر الانتقادات الأميركية للصين على موقف الأخيرة من الأزمة النووية الايرانية، اذ تتهم واشنطنبكين بالتقصير في مساعدة الولاياتالمتحدة على فرض إرادتها على كوريا الشمالية في ما يتعلق برنامجها النووي، وبإقامة شبكة دولية من التحالفات مع دول تصنفها واشنطن معادية مثل السودان وزيمبابوي وفنزويلا ك"جزء من استراتيجية تستهدف تقويض المصالح الاميركية"بحسب نائب وزيرة الخارجية الأميركية روبرت زوليك. ولعل أكثر ما يقلق واشنطن هو حجم الحضور الصيني القوي في إفريقيا. ففي العقد الأخير من القرن العشرين، و بعد انتقال الصين إلى ما يشبه النظام الرأسمالي في الاقتصاد والانفتاح الكبير على العالم، تخلت عن سياسة إقامة المشروعات الكبيرة في إفريقيا، و أصبحت تركز على العلاقات التجارية. وشهدت صادراتها إلى دول طفرة قوية، فوصل الحجم الإجمالي للتجارة البينية الصينية - الإفريقية عام 2000 الى 10.6 بليون دولار، وقفز عام 2002 إلى نحو 13.39 بليون دولار، وعام 2003 الى 13.4 بليون، ليبلغ عام 2004 نحو 29.46 بليون دولار. وفي عام 2004 باتت الصين ثاني اكبر مستهلك للنفط 6.5 مليون برميل في اليوم بعد الولاياتالمتحدة 20 مليون برميل في اليوم، متجاوزة اليابان التي كانت تحتل هذا الموقع. والحال هذه اندفع الصينيون نحو التنقيب عن النفط على طول ساحل نيجيريا وفي موريتانيا والسودان والغابون وأنغولا. و منذ سنوات أصبحت الصين المستورد الأول للنفط السوداني والأنغولي، وهي تستورد نحو 30 في المئة من حاجاتها النفطية من إفريقيا، وهذا ما يجعلها ربما في تصادم مع الولاياتالمتحدة التي تطمح الى تقليص اعتمادها على نفط الشرق الأوسط. وما يزيد القلق الغربي ان الحضور الصيني لم يعد مقتصراً على شراء المواد الأولية أو التزود بالنفط، اذ دخلت الشركات الصينية حلبة المنافسة الدولية مع الشركات الغربية في قطاعات المواد الطبية والأدوية والاتصالات. وقد تحولت الصين، بفضل سياسة التحديث التي قادها دينغ شياو بينغ قبل ثلاثة عقود، إلى عملاق اقتصادي، وهي تتحول الآن، بسرعة، من بلد مصدر للسلع الرخيصة إلى عملاق استهلاكي يستورد كل شيء، من الطاقة و خامات المعادن الى أجهزة التلفزيون والكومبيوتر. وتحتل المرتبة الثالثة بعد الولاياتالمتحدةواليابان في استهلاك السلع الكمالية و السيارات، كما انها أكبر سوق للهاتف الجوال في العالم 377 مليون مستخدم. وتمثل الصين القوة الاقتصادية الرابعة عالميا، اذ تنتج ما نسبته أربعة في المئة من إجمالي الناتج العالمي، أي نحو سبع الاقتصاد الأميركي وثلث الاقتصاد الياباني. وفي حال استمرار معدلات النمو الاقتصادية الحالية 10.2 في المئة خلال الشهور الثلاثة الأولى من عام 2006، فإن حجم الاقتصاد الصيني سيساوي نظيره الأميركي بحلول عام 2020، لا سيما في ظل العجز الهائل في الموازنة الأميركية الذي وصل إلى 450 بليون دولار، و في ظل العجز الهائل في الميزان التجاري بين الولاياتالمتحدة و الصين، والذي بلغ 202 بليون دولار عام 2005 لمصلحة بكين. وتمارس الولاياتالمتحدة ضغوطاً قوية على الصين لخفض قيمة عملتها اليوان لتصحيح الاختلالات في المبادلات التجارية، ولأن إبقاء الصين عملتها المحلية دون مستواها الحقيقي مقارنة بالدولار يهدد الغرب بأزمة اقتصادية حادة. اذ تتهم واشنطنبكين بأنها سبب البطالة في الولاياتالمتحدة، لا سيما في قطاع عمال النسيج جراء انخفاض أسعار الصادرات الصينية من المنسوجات إلى السوق الأميركية و الأوروبية. جاء الرئيس الصيني إلى واشنطن تحدوه رغبة في تهدئة قلق الأميركيين، و تمرير فكرة أن التأثير المتنامي للصين بعيد كل البعد من أن يشكل تهديدا للولايات المتحدة. وهو سمح قبل الزيارة برفع الحظر عن بيع لحوم البقر الأميركي، والمفروض منذ ظهور مرض جنون البقر. كما وقعت الصين مئات العقود مع شركات أميركية، لا سيما شركة"مايكروسوفت"، بقيمة 10 بلايين دولار، وتعهدت مكافحة القرصنة . كما كرر الرئيس الصيني عندما زار مقر شركة"بوينغ"تفضيله خيار شراء 80 طائرة بوينغ بقيمة خمسة بلايين دولار. كيف تنظر واشنطن إلى التحدي الصيني ؟ الإدارة الأميركية ليست مستعدة للقبول ب"شراكة استراتيجية" مع الصين، بحسب قول مايكل غرين، الذي كان حتى كانون الأول ديسمبر 2005، المكلف بالملف الصيني في مجلس الأمن القومي. اذ تتمحور المخاوف الأميركية على الزيادة الهائلة في الإنفاق العسكري الصيني على التسلح الذي بلغ 90 بليون دولار، أي ثلاثة أمثال الرقم الذي تعلنه بكين. وعلى الصعيد العسكري، وعلى رغم أن معهد الدراسات الاستراتيجية في لندن يقدر حجم الإنفاق العسكري الصيني بنحو 62.5 بليون دولار سنويا، أي ما يقل عن 15 في المئة من الإنفاق العسكري الأميركي 400 بليون دولار سنويا، تمتلك الصين أسلحة وصواريخ نووية قادرة على تهديد الأراضي الأميركية. وقد يكون لافتا في هذا السياق ما ذكره الجنرال جوشينج، أستاذ في الجامعة الوطنية للدفاع في الصين، منتصف تموز يوليو 2005 حول امكان استخدام بلاده الأسلحة النووية ضد الولاياتالمتحدة في حال تعرضها لهجوم أميركي خلال أي صراع مع تايوان. وكان وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد ألقى بقنبلة دبلوماسية خلال مشاركته في مؤتمر عن الأمن الآسيوي في سنغافورة 4 حزيران/يونيو 2005 ، حين اتهم الصين بتجاوز الحدود في الحصول على أسلحة حديثة لا سيما من روسيا، وزيادة الإنفاق على الدفاع. واعتبر ان هذا الإنفاق يهدد التوازن الأمني الدقيق في آسيا، لا سيما الإنفاق على إنتاج الصواريخ والتكنولوجيا المتطورة، لأنه يهدد تايوان والمصالح الأميركية في آسيا. وتساءل رامسفيلد عن دوافع زيادة الإنفاق العسكري في وقت لا تواجه الصين أي تهديد خارجي. وعلى رغم أن الصين، كدولة قائمة في حدودها الحالية منذ أكثر من ألفي سنة، لم يعرف عنها أنها دولة توسعية حتى في عهود عصرها الإمبراطوري، تتعامل الولاياتالمتحدة معها على أنها دولة منافسة ومعادية برسم المستقبل. ولهذا، تنتهج إزاءها استراتيجية التطويق والمحاصرة، من خلال زيادة الإنفاق العسكري الأميركي، وإقامة سلسلة من التحالفات والقواعد العسكرية حولها، وإثارة كل أنواع المشكلات من داخلها وحولها، والمبادرة إلى شن الحروب الاستباقية في محيطها الإقليمي، من أجل تقليم أظافرها. * كاتب تونسي