ضجّت قاعة فندق "رينيسانس" الاسكندرية بالتصفيق، عندما أعطى العالم المصري الشهير فاروق الباز مثالاً عن ثقافة التمييز ضد المرأة قائلاً:"ان البنت يقال لها بسهولة في المنزل"روحي شوفي أخوكي عاوز ايه"، ولكن من الصعوبة أن يُقال للأخ"روح شوف أُختك عاوزه ايه". جاءت تلك الكلمة في سياق تعليق للباز، المتخصص في جيولوجيا الفضاء، عن مجموعة من المداخلات التي ورد فيها أن التمييز ضد المرأة علمياً هو أمر له بُعدٌ ثقافي واجتماعي. وألقيت تلك المداخلات خلال اليوم الأول من مؤتمر"المرأة في العلم"، وتضمنت محاور مثل"التعليم والتغيير الاجتماعي"وپ"التدريس والأبحاث"وتحدث فيها نسوة اعتبرهن المؤتمر من النماذج الناجحة لحضور المرأة علمياً مثل الدكتورة رفيعة غباش رئيسة جامعة الخليج العربي- البحرين وفرخاندة حسن استاذة الجيولوجيا في الجامعة الأميركية في القاهرة وزهيرة طباطبائي الاختصاصية في شؤون العمل من الأممالمتحدة وفريدة علاقي الاختصاصية في التنمية من الأممالمتحدة وغيرهن. واستهلت تلك النقاشات بمداخلة للدكتور اسماعيل سراج الدين، تناول فيها مسألة حضور المرأة في العلم، مشدداً على التمييز ضدها تاريخياً، وعرض سير بعض النساء الغربيات اللواتي استطعن تحدي قوى المنع وتسجيل حضورهن البارز علمياً مثل ماري كوري وماريا أغناسيا واليزابيث بلاكويل وكارولين هيرشل وغيرهن. أنظر الاطار"نساء بارزات في العلم". صعود ثقافة المرأة غرباً ويصعب القول ان المؤتمر أطال النظر في البعد الثقافي لإشكالية تهميش المرأة في العلم. وفي المقابل، فإن الوعي النسوي الغربي نظر عموماً الى تلك المسألة باعتبارها نموذجاً لضرورة نقد الفكر السائد، وخصوصاً الفكر الذكوري الذي تصرف دوماً باستعلاء حيال المرأة دافعاً إياها صوب التهميش. إذاً، لندقق في الأمر مُجدداً، ما الذي استفادته المرأة غرباً من حضور أولئك النسوة المتألّقات علمياً، وبالأحرى كيف تعاملت ثقافة الحركة النسوية ووعيها في الغرب مع التجربة التاريخية من التمييز ضد المرأة علمياً؟ الارجح أن من الصعب الوصول الى إجابة شافية عن هذا السؤال، وخصوصاً أنه متشعب، وكذلك لأن الثقافة النسوية لا تمثل تياراً منسجماً وحيداً ولا حتى نمطاً فكرياً موحداً ولا متجانساً. وفي المقابل، من الممكن الإشارة الى أن حضور المرأة في العلم شكل أحد الحقول المهمة للتفكير النسوي بطريقة نقدية للثقافة السائدة عن العلم، كما هي الحال بالنسبة الى الثقافة بصورة عامة. ولا تنحصر المسألة، في الوعي النسوي غرباً، بمجرد الحق في المساواة في المساهمة في العلم، على رغم الأهمية الفائقة لهذه المسألة، بل تتعداه لتحاول فهم الأسباب العميقة، في الثقافة والبنى الاجتماعية، التي تحول دون المشاركة الحرة المفتوحة والمتساوية فعلياً للمرأة في هذا المجال. ويزيد من حدّة النقد النسوي غرباً أن تلك المساواة لم تتحقق فعلياً، على رغم الصعود المتواصل للمرأة في تلك المجتمعات والجهود الضخمة في إطار تحقيق المساواة العميقة بين الجنسين. ولعل من اللافت أن المرأة الغربية ما زالت تصرّ على أنها مهمّشة ومستبعدة ذكورياً من نيل حقوقها في العلم. ومن الأمثلة على ذلك أن نصيبها في المراكز العلمية المتقدمة، بداية من عدد الحائزات درجة الدكتوراه في العلوم والرياضيات ووصولاً الى عدد اللاتي يشغلن مراكز حاسمة في القرار العلمي، ما زال ضئيلاً إذا قورن بما يحوزه الرجال. وترى الحركة النسوية، وخصوصاً في ثقافة ما بعد الحداثة، أن أول ما يكشفه حضور المرأة في العلم، هو زيف الأساطير الرائجة عن العلم، وخصوصاً لجهة حياديته وموضوعيته! فككل معرفة انسانية، يصدر العلم عن مجتمعات لها سياق تاريخي تتراكم فيها مجموعة من القيم السائدة. وبدهي القول ان الذكور، كفئة مهيمنة، تحكموا تاريخياً بمنظومات القيم الاجتماعية وكذلك الحال بالنسبة الى الطريقة التي"يرى"فيها العلم العالم ويفكر به. يمكن تبسيط النقد النسوي، ولو على نحو مُخلّ، بالقول ان المسيطر والمهيمن اجتماعياً وثقافياً هو من تحكم تاريخياً بالمعرفة الانسانية وعلومها. يسهل إعطاء أمثلة عن ذلك في النظرة الى الأعراق. فمثلاً، اشتغلت المؤسسات العلمية في ألمانيا، قبل صعود النازية وأثناء حكمها، بمسألة التفوق العرقي للعرق الأبيض وخصوصاً الآري. وأجريت تلك البحوث في مراكز علمية بارزة مثل"معهد القيصر فيلهالم"، وبيد كوكبة من العلماء ضمّت حفيد تشالز داروين. وعلى عكس ما قد يتصوره البعض، فإن النازية استندت الى تلك البحوث في تحريضها السياسي، وليس العكس، ثم عملت على دعمها بعد أن وصل النازيون الى الحكم. وأدت تلك النظريات العلمية الى ظهور فكرة الصفاء العرقي، وخصوصاً"اليوجينيا"، التي أعطيت كتبرير علمي لفكرة التخلص من"الأعراق الأدنى في سلّم التطور"، والتي تجسدت في معسكرات الإبادة الجماعية في"داخاو"وپ"أوشفيتز"وغيرهما. ولعل الدكتور سراج الدين مسّ ذلك الأمر مسّاً خفيفاً عندما أشار الى التجارب العنصرية التي انهمك فيها اختصاصي الدماغ الألماني الشهير بول بروكا 1824-1884 الذي بذل جهوداً جبّارة للعثور على الفوارق التي تثبت تفوق أدمغة البيض على السود. ولاحظ سراج الدين أيضاً أن بروكا عالم ذو وزن تاريخي، لأنه أول من اكتشف أن الدماغ الانساني فيه مناطق تتخصص بوظائف معينة في التفكير واللغة والنطق وغيرها. العنصرية والجينات المفارقة أن الحركة النسوية العربية لم تصل الى ذلك المستوى من النقد، بمعنى جعل الانقسام الجنسي جزءاً من النظرة الى العالم ومعرفته، بما في ذلك العلم. وأما النسوية الغربية المعاصرة، فاستفادت من تلك الدروس القاسية، وجعلتها جزءاً أساسياً في وعيها التاريخي، وخصوصاً لجهة تحدي الأسطورة الذكورية عن"حياد"العلم. ولا يعني نقد ذلك الحياد القول إن ما يكتشفه العلماء غير صحيح الحق أن ذلك شيء آخر، فما يكتشفه العلم هو دوماً نسبي وغير صحيح بالمطلق وقابل للنقض بصورة مستمرة، بل إن نقد الحياد هو للقول انه يأتي في سياق نظرة ثقافية تعبر عن القوى المهيمنة في المجتعات. ومع تاريخ طويل من هيمنة الرجال، اصطبغت نظرة العلم بالذكورية في أطيافها كافة"ولعل"اليوجينيا"هي من الأمثلة البارزة على نقد نظرة العلم الى العالم. وفي استكمال صورة"اليوجينيا"، أن النساء عُق! من لتجنب إنجابهن أولاداً قد يحملون صفات غير مرغوبة. وحدث ذلك في ألمانيا النازية، كما في الكثير من الدول الغربية بما فيها الولاياتالمتحدة الأميركية. واستمر التعقيم على أساس"اليوجينيا"حتى سبعينات القرن الماضي في البلدان الاسكندينافية، على رغم قوة الحركة النسوية فيها. والمفارقة أن مؤتمر"المرأة في العلم"عقد في ظل أخبار أعادت أشباح"اليوجينيا"القاسية، بما فيها ذكوريتها وعنصريتها. فقبل عقد المؤتمر الاسكندراني، تناقلت وسائل الإعلام تصريحاً لجيمس واطسن، أحد مكتشفيْ تركيب الحمض النووي الوراثي في الخمسينات من القرن الماضي، أعرب فيه عن اعتقاده بأن علم الوراثة"يثبت"أن السود متخلفون وكسالى قياساً الى البيض! وأثار الكلام ضجة كبيرة، فلم يعد العالم حكراً على البيض، وقد صعد السود من الهوامش ليدافعوا عن حقوقهم منذ عقود طويلة"وذلك نموذج عن الكيفية التي يجدر بمجموعة مهمشة ان تسعى من خلالها الى نيل حقوقها بالضد من القوى المهيمنة. وسرعان ما تراجع واطسن، الذي تشارك مع فرانسيس كريك جائزة نوبل في الطب عام 1955، عن تصريحاته العنصرية، واعتذر عن عدم دقتها علمياً أيضاً. ويبدو أن أشباح"اليوجينيا"، وغيرها من الأفكار العنصرية أليست الذكورية شكلاً منها؟، ما فتئت حاضرة، ما يفترض استمرار التنبّه النقدي حيالها من جانب الساعين الى المساواة والعدالة بين الناس، وخصوصاً بالنسبة الى المرأة.