وصلتني رسالة قصيرة، من واحد من "أهل الحارة"، من وراء أعالي البحار، تقول "الله يمنحك حكمة الزعيم، وشجاعة أبو شهاب وصبر أبو عصام، ويلهمك توبة الأحد عشري، ويجنبك غدر صطيف، ولسان فريال، وغضب أبو النار. ثم يختمها: أهل الحارة يسلمون عليك". الرسالة تدل إلى تمكن شخصيات"باب الحارة"في الوجدان الشعبي والسوري والعربي. العاصفة الإعلامية الاحتفالية التي وصفها العامة والخاصة في الوطن والمنفى بجملة سياسية هي"يقوم المسلسل بمنع تجول في أثناء عرضه"، دفعتني إلى العودة عن قراري بالإقلاع عن فرجة الدراما، ليس لغلاء وقتي بل لرخص الدراما العربية التي يحاول بها العرب التسلية والتعويض عن رخص الكرامة. فتابعت حلقات"العشر الأواخر"المعتقات من نار الزمن. وليس من الغريب أن تبادر قناتان محافظتان إلى الاحتفال ب"كاسيت"أهل الحارة هما الشارقة والمنار"التي صورت الحوارات في حارة الضبع نفسها."باب الحارة"أعظم يوتوبيا سورية تاريخية، اجتماعية، لهذا العقد المنكوب. وكان مفرحا لكثيرين أن يبشر أولياء المسلسل بأجزاء خمسة وليس بجزء ثالث فقط ويعد بالمزيد من الخشخاش البصري وأحلام اليقظة. إنّ أهم أسباب تعلق السوريين ب"باب الحارة" إلى درجة الهيام هو، قتل الكلمة التي كانت في البدء أين وعد قانون المطبوعات ووعد قانون الأحزاب، ووعد احدث قانون سوري في المدونات الالكترونية...؟، و من الأسباب اغتيال الحارة في الوطن، ف"العكيد"المعاصر هو البصاص هل لكلمة الحارة علاقة اشتقاقية بالحرية وغياب الباب أيضا المواطن تحت الطلب، والكرامة الإنسانية قد تهدر بكلمة احتجاجية والكرامة الوطنية التي تهينها اسرائيل لتؤكد سطوتها وأفضليتها باعتبارها"عكيد"المنطقة. من الأسباب سحق المجتمع الأهلي و"المدني"الذي استعاده هوميروس سورية 2007 بسام الملا على شكل حلم يقظة في حارة مشتهاة وفردوس مفقود. عوامل النجاح الأخرى مساعدة: تشويق جيد، فكرة التلصص في صندوق الدكان الذي يصير بلورة سحرية درامية مبتكرة موجودة في قصص ألف ليلة وليلة وتفاصيل نسائية حميمة. تابعت بعض النقود الصحافية"العلمانية"أو الحداثية التي تتهكم على الحجاب النسائي والتخلف، والنزعة الأبوية والأبواب الموصدة، والفردانية الغائبة في عصر العولمة، وغياب الصحافة والحراك الحزبي السوري في زمن المسلسل، ما يجعلها"فانتازيا"، اضف اليها غياب المثقف، سوى الشيخ والراوي، الذي هو صورة بسام الملا كراوٍ بصري معاصر يستعيد البطل الفردي والبطولة الجمعية في"ديموقراطية شعبية"بالمعنى التراثي لا بالمعنى التقدمي الاشتراكي. قال أحد هذه النقود إن المسلسل يحضّ على الفرقة العائلية بتشجيعه حجب الزوجة عن الأخ عصام يترك دار أبيه لانكشاف شعر زوجته على أخيه لكن صوتا قدّاميا قال أن المسلسل جمع الأمة التي فرقتها المرأة كما فرقت بين قابيل وهابيل، وأضاف مستدركا ليس المرأة بل إرغام السلطة"ربة الخدر"، على الخروج تحت وطأة الفقر والجوع الى"سوق"العمل الأسود بعد ان أفقرت السلطة المجتمع بالعبث باقتصاده، إلى درجة أنها صارت تأكل بثدييها وبدلا من أن تزداد ترفا ازدادت رهقا بعملين، عملها المنزلي التراثي وعملها في"الدوام"كتبت مقالات عدة عن السياحة الجنسية السورية. زاد من السجال بين اسبارطة الحداثة السورية وطروادة القدامة تكريم مجمع ديني سوري بعض"عضوات""باب الحارة". ستكون المرأة محور صراع دائم بين الشرق والغرب وبين القداميين والحداثيين منذ هيلين. فأول ما سعت إليه العلمانية العربية الانتهازية هو"تأميم"المرأة التي سعى المسلسل إلى مديح أفرادها برجل واحد زائد ثلاث نساء. الكرم العربي الذي يقرب من الهدر حاتم الطائي استمر وصار من أخلاق المسلم التي يثاب عليها إلا انه كان على حساب المرأة، فالمرأة"متاع"خاص أكثر من البصمة وحدقة العين. ما كان الإعلام يحتقره ويعتبره"رجعيا"هو ما نعتز به الآن! فبالرغم من ملاحظة الممثلة هيلين فياض عدم وجود اصوات نسائية احتجاجية فإنها أبدت حبها لأسرة وتقاليد الحارة بلا تحفظ، أما ملاحظة هيلين النابلسي الناقدة فهي أن المرأة السورية كانت ملكة"ببيتها"؟ تصفيق ل"باب الحارة"إذاً؟ صديق"علماني"سوري أشار إلى المسلسل الذي كان يعرض في بيت احد الأصدقاء السلفيين المنخرط في مشاهدة المسلسل، قائلا: تفضل، الرجعيون الذين دحرناهم واخرجناهم من الديار يعودون إلى الحارة. الحق انه ذكر اسم حزب تؤدي شبهة الانتساب إليه إلى الحكم بالإعدام؟ فانتبه الصديق السلفي: تبني المسلسل عرضا، اعتذار عن حرب سافرة على الحجاب الذي نزعته وحداتها الخاصة عن"حريمات الشام"الشريف أي حرامها، وتذكّر كيف كانت المسلسلات السورية التقدمية في الحقبة الماضية تتجنب إظهار أي محجبة إلا امرأتين: أن تكون عجوزا في الغابرين أو خادمة في الارذلين. أما شيخ الحارة فكان حليقا، اتاتوركي الشكل، إذا ذكر النبي بخل عليه بالصلاة والسلام واكتفى بوصفه بالكريم. يعرب المسلسل عن حنين جارف إلى الماضي والسلف الصالح"القريب"و"باب الحارة"مثل الملك فاروق في نازع العزف على مزمار الحنين إلى الماضي، قبل الثورات الوطنية"التامة"التي جعلت ما قبلها جاهلية جهلاء صلعاء خالية من"مكارم الأخلاق"والوطنية. لكن مسلسل الملك فاروق الذي ينبش في التاريخ السياسي متقدم رقابيا، فمصر تتقدم سورية بعشر سنوات ديموقراطية على الأقل، فمن المستبعد أن يعرض مسلسل باسم"الرئيس القوتلي"في المستقبل المنظور؟ لا يخلو المسلسل من أخطاء وهنات مثل لحظات الاستعداد للتصوير في بعض المشاهد والإسراع في إسعاد النهاية في حلقته الأخيرة بالقص واللصق، وهي حلقة يمكن صنع مسلسل منها. ولم ينس أن يشرك أبو طوني في النضال الوطني، وهي طريقة سورية معروفة في التأكيد على الوحدة الوطنية هل تعاني الثقافة السياسية السورية من عقدة وحدة وطنية لكنها أغضبت الكردي الذي أمل ان يكون في الحارة ولو بشخصية ماسح احذية باسم شيركو أسد الوغى الذي كان أميرا ذات يوم، ملاحظة برسم الجزء الثالث. فالعلمانية السورية تنتبه إلى التوحيد الوطني الديني - الذي تحله بكبسة زر سحرية: صورة تذكارية لأزياء دينية- وتهمل الاثنيّ والأقوامي قوميات أهل الذمة على عكس التوحيد الوطني الإسلامي الذي يوحد بين القوميات ويفرق بين الأديان. وقد طيبت خاطره بالقول مازحا ان المخرج كردي، بدليل كنيته، أليس ملالي سورية كلهم كردا؟ بعد نهاية الحلقة الأخيرة، قالت لي زوجتي:"تقبرني ابن عمي قم كبَّ الزبالة". فقلت:"على رأسي عكيد، ولكن نسيت انك في حارة استوكهولم السويدية و"أحكامها العرفية"القاضية برمى الزبالة في مواعيد وأكياس"موحدة وطنيا". وليس في حارتنا العشوائية، حيث لنا"الحرية"في كبّها في أي مكان أو أي زمان". كانت هذه خاتمة طيبة لمقال عن"باب الحارة"، إلا أني أريد أن أفسدها وأقول أني كدت ارتكب غلطة العمر قبل يومين لولا جاري السوري الذي حذرني: لولا رأى السويديون ابنتك عشر سنوات وهي تحمل كيس الزبالة العملاق أخلاق"باب الحارة"السورية لسحلوك إلى 999"؟ وهو فرع مكتوب على بابه بالحبر السحري جملة جحيم دانتي: أيها الداخل افقد كل أمل. السوريون، مقيمون ومهاجرون، مشتاقون إلى سورية، الحارة، الحرة. * كاتب سوري مقيم في السويد.