كان ذلك أول وصوله الى ايطاليا ليدرس ويناضل. ومنذ ذلك الوصول ارتبط بصداقة مع مجموعة نضالية يسارية كان من بين أهدافها الدفاع عن قضية المرأة. وحين سلم كمية من أول منشور للمجموعة طلب اليه ان يوزعه، فوجئ بأن المنشور يتضمن هجوماً على الفيلسوف الألماني هيغل وتهمته: اعتبار المرأة مخلوقاً ثانوي الأهمية في كتاباته الفلسفية. كانت الدهشة كبيرة، خصوصاً ان عنوان المنشور كان:"فلنركز هجومنا على هيغل". بالنسبة اليه، هو الآتي من الشرق، كان هيغل أكبر من ان يهاجم... بل كان هيغل اعقل من ان يكون متهماً بظلم المرأة في كتاباته. لكن قراءة لنص المنشور أقنعته. ثم ازداد اقتناعاً بأن عليه ان يتخلص من افكار مسبقة كثيرة حول المفكر بين التنويريين ونظرتهم الى قضية المرأة. ومن هنا حين تركز الهجوم التالي للمجموعة، على شكسبير ثم على موليير... بدت الامور بالنسبة اليه مقبولة وعادية وصار أمام نتيجة مفادها ان المرأة لم تلق ابداً معاملة جيدة حتى من اولئك الذين صنعوا الفكر الحديث وكانوا متقدمين على ازمانهم. واذ تعمق في الامر، أدهشه بصورة معاكسة هذه المرة، اكتشافه انه كان ثمة في المقابل مفكر راعى قضية المرأة ودافع عنها طويلاً وبشراسة. وكان هذا المفكر الفيلسوف الموسوعي الفرنسي ديني ديدرو. ومن هنا راح صاحبنا يقرأ نصاً لديدرو عنوانه"حول النساء"، أعاد اليه ايمانه بالفكر التنويوي من جديد. مهما يكن فإن ظروفاً عدة ساهمت دائماً في التغاضي عن هذا النص المهم الذي وضعه، سنة 1772، أو قبلها قليلاً ديدرو، الذي كان مفكراً اساسياً من بين المفكرين الذين مهدوا للثورة الفرنسية، الى جانب مونتسكيو وفولتير وروسو وهولباخ. بل إن ديدرو كان متقدماً على هؤلاء جميعاً في مجالين على الأقل: تعميم الثقافة لتصل الى الناس جميعاً، من خلال الكتابة الموسوعية والتبسيط العلمي. ثم قضية المرأة، التي يشهد له عليها هذا النص. واللافت ان هذا النص الأساسي لديدرو، انما صدر في المرة الأولى ضمن اطار كتاب جماعي يضم"مراسلات"كان ملكبور غريم يبعث بها الى الأمراء وأصحاب القرار، حول مسائل التربية والتعليم والقضايا الاجتماعية وما شابه. وكان ديدرو قد حل منذ أوائل سنوات السبعين من القرن الثامن عشر، محل غريم في بعث الرسائل، وهذا ما يفسر ورود نص في"مراسلات غريم"هذه. المهم ان نص ديدرو"حول النساء"بدا متميزاً منذ صدوره للمرة الاولى ولفت الانظار بپ"ذكاء آرائه الثاقبة، والحيوية الاستثنائية لأسلوبه"، بحسب ما كتب عنه النقاد في ذلك الحين ولا يزالون يكتبون حتى الآن. والحال ان هذه النظرة تبدو مستحقة، لأن ديدرو، وكما أشرنا بدا في نصه هذا متقدماً، ليس فقط على سابقيه ومجايليه من المفكرين، لا حتى على كثر من المفكرين الذين أتوا من بعده. ولافت في هذا الصدد ان ديدرو كتب"حول النساء"في الوقت نفسه الذي كان ينجز روايته الفلسفية الشهيرة"جاك القدري"، حتى وإن لم ينشر هذه الاخيرة الا سنة 1796. فما هو نص"حول النساء"؟ هو في الاصل مراجعة طويلة وسجالية لكتاب كان عضو الاكاديمية أ. ل. توماس اصدره في ذلك الحين في عنوان"دراسة حول النساء"... غير ان ديدرو الذي بدأ النص على شكل عرض للكتاب، سرعان ما يجاوز هذا ليكثّف في ما لا يزيد عن 15 صفحة مجموعة من الافكار والآراء الاجتماعية، التي تحولت في نهاية الامر الى دراسة عميقة وتفصيلية، حتى وإن كانت مختصرة، للقضية التي كان يريد التعبير عنها: قضية المرأة في علاقتها مع المجتمع، ومع التاريخ والأدب والفن. ذلك ان ديدرو، كي يدعم نظريته التقدمية المتقدمة التي مفادها، في نهاية الامر، ان المرأة تستحق اكثر مما تناله بكثير، وأن التاريخ انما ظلمها ظلماً كبيراً، اذ لم يقدّر دورها ولا ذكاءها ولا جهودها ولا حتى مكانتها في سياق الحياة الاجتماعية، لجأ الى الآداب والفنون التي ظهرت على مدى التاريخ، مستخلصاً حكايات وأوضاعاً وإشارات، دعمها بعد ذلك بفقرات تتحدث بوضوح عن تجاربه الشخصية، كي يخلص من هذا كله الى الحديث عن السمات الخاصة بالمرأة وحياتها - ودائماً من منطلق ايجابي يتصدى لكل سوء فهم في هذا المجال -. وللتوصل الى رسم كل هذه الخريطة لحياة المرأة ومكانتها، وما يريد لأوضاعها ان تكون عليه، تعامل ديدرو مع النص تعاملاً موسوعياً، مازجاً بين نزعته الفيزيولوجية والتوجه الطبيعي والنظرة الاخلاقية الصارمة، مغلفاً هذا كله بلغة كتابية لم يكونوا مخطئين اولئك الذين قالوا عنها انها ليست أقل من لغة شاعر عاشق. وديدرو بعد ان عبّر عن ذلك كله، وصل الى النقطة التي احس ان عليها فيها ان يتعمق في موضوعه بالارتباط مع العصر الذي يعيش فيه، في شكل ملموس. ومن هنا نراه يبدأ في وصف شروط عيش المرأة في زمنه، معبراً على طريقته، وباللغة الجامعة بين الشاعرية والعلمية، عن كل النظريات التي كانت تناقش بقوة وشغف في ذلك الزمن في صدد قضية المرأة، ولا سيما في وقت كانت فرنسا كلها تغلي بالافكار الثورية - اذ، لا ننسين هنا ان النص كتب اول سبعينات القرن الذي ستندلع فيه الثورة الفرنسية، تلك الثورة التي كانت واحدة من اولى ثورات التاريخ التي يشارك الفكر التنويري والتقدمي في صنعها -. وهو، أي ديدرو، كان كلما توغل في كلامه يعود الى الكتاب الذي كان، في الاصل، يعرضه مستعيناً به كمنطلق لأفكاره. وهكذا، مثلاً، نراه في احدى الفقرات يكتب:"ان توماس - أي مؤلف"دراسة حول المرأة"- لا يتفوه بأية كلمة على سبيل المثال، حول المزايا التي يحققها بفضل وجود النساء في حياتهم، رجال الأدب والفن. وفي هذا جحود ما بعده جحود. صحيح ان روح المرأة قد لا تكون أكثر نزاهة من روحنا، نحن معشر الرجال، بيد ان الخفر والأخلاق الحسنة يمنعان النساء من ان يعبّرن عن أنفسهن بالصراحة التي نعبر نحن بها عن أنفسنا ...". ومن هنا حاجة النساء الى أقلام تكتب عارضة قضيتهن، لأنهن أمام الاوضاع التي يعشنها، يجدن انفسهن إما ساكتات، وإما قائلات اشياء اخرى غير الكلمات التي لا يجرؤن على النطق بها... ومن الواضح هنا ان ديدرو انما برر حتى تصديه هو للكتابة حول المرأة مدافعاً عن وجودها وحقها، في وجه كل اولئك الذين تصور انهم، اذ يقرأون نصه سوف لن يفوتهم ان يسألوه: ولكن لماذا تكتب أنت، هكذا، عن قضية المرأة؟ لماذا لا تتصدى هي لقضيتها فتكتب عنها بكل وضوح؟ مهما يكن، من الواضح هنا ان هذا النص لديدرو عن قضية المرأة، هو واحد من أولى النصوص التي كتبها فيلسوف او كاتب أراد ان يكون عادلاً تجاه"نصف المجتمع"، وهو المتفهم اولاً وأخيراً، لماذا لم تعالج قضية المرأة حتى زمنه إلا بأقلام الذكور... وفي أغلب الاحيان بأقلام ذكور معادين لتحرر المرأة او حتى لقدرتها على التعبير عن وجودها، حتى وإن كانوا في مجالات المجتمع والنضالات الاخرى، متقدمين - كما قلنا - على زمنهم. ديني ديدرو الذي عاش بين 1713 و1784، كان واحداً من كبار فلاسفة زمنه ومن اكثرهم عقلانية، هو الذي اخضع في اغلب الاحيان المسألة الفكرية الى استخلاصات التجربة الشخصية، ما يفسر بعض نكوص مارسه بالنسبة الى بعض القضايا بين الحين والآخر، وما يفسر ايضاً وسمه بالنزعة البراغماتية - التجريبية، من جانب مفكرين كتبوا عنه لاحقاً. وقد كتب ديدرو كثيراً، وفي كثير من المجالات... وكانت كتاباته تثير دائماً - ولا تزال حتى زمننا هذا - ثائرة الرقابات والرجعيين. وعدا عن اشتغال ديدرو الدؤوب على"الموسوعة"الشهيرة، يعتبر من بين أهم كتبه وأشهره، جمع من أعمال فلسفية وروائية ونقدية منها"رسالة حول العميان"وپ"رسائل الى صوفى فولار"وپ"ابن اخ رامو"وپ"الراهبة"، ودراسة طريفة حول"لغز الممثل".