سياسات الهيمنة الإسرائيلية نجحت، في ما نجحت، في احتواء المواطنين الدروز في الدولة اليهودية. فقد استهدفتهم الحركة الصهيونية من قبل وأفلحت الدولة اليهودية في"تدجينهم"وشدّهم إلى مركز القوة الإسرائيلي بعيدا من خانة انتمائهم العربية، بل في مواجهتها. وبعد ثمانية عقود من التاريخ ألفى الدروز في إسرائيل أنفسهم بين ما يُمكن اعتباره خيانتين. الأولى، شعورهم العام بأن الدولة اليهودية قد خانتهم وتنكّرت لهم تماما عبر سياسات التمييز ومصادرة الأرض وممارسة سياسات الضبط المكاني ضدهم وحرمانهم من الخير العام واعتماد سياسات هندسة هويتهم من جديد اشتقاقا من المشروع الصهيوني وفلسفته. وما هو أكثر إدارة ظهرها لهم رغم ما يعتبرونه تضحية وجودية من جانبهم بربطهم مصيرهم بالدولة اليهودية في زمان ومكان شرق أوسطيين. والخيانة الثانية، هي أن مجموعة انتمائهم الأساسية، وهو الفضاء العربي الممتد أو المحاصر داخل إسرائيل، لا يتردّد، من حين إلى حين، في اعتبارهم"خانوا"أمتهم وانتماءهم. أو أن يبثّ لهم وجوب أن يجتهدوا ليثبتوا أنهم عرب وأنهم يستحقون الاعتبار! هذه هي الحالة الوجودية للدروز في فلسطين. فلا الدولة تحتضنهم في واقع الأمر ولا تنصفهم لا كمواطنين ولا كجماعة، ولا أمتهم تغفر لهم أو تسهّل عليهم الحياة. وعلينا أن ننتبه إلى أن وضعية كهذه تدفع الدروز في إسرائيل إلى المراوحة في المكان لأنه من الأسهل ألف مرة أن تكون ضحية خيانة وهنا خيانة الدولة اليهودية من أن تكون"الخائن"! ومن اللافت أن هذه الوضعية يستثمرها ذوو القربى في الدول العربية في التعاطي مع الدروز هناك. فرغم ما هو معلن في الخطاب العربي العام من أحاديث الوحدة والشعب الواحد والمواطنة والعروبة، لا يتردد البعض في مؤاخذة دروز لبنان مثلا أو سورية بدروز فلسطين. ويذهب البعض أبعد بتخوين الذين"هناك"، أيضا، بجريرة الذين"هنا". وعليه، من المهم الالتفات إلى كل مستجدّ ومتغيّر في مساحة هذا المسألة سيما أننا على اعتقاد بوجوب أن يتمّ التعاطي معها على أعلى المستويات كي لا تظلّ عرضة لسوق المزاودات أو التكفير أو الشعبوية الأصولية. نقول هذا وقد وصلتنا فتاوى مُدينة مكفّرة أين منها أوروبا محاكم التفتيش؟! نسوق هذه المقدّمة تمهيدا للحديث عن زيارة الوفد الديني الذي ضمّ حوالى 300 شيخ من دروز فلسطين إلى المواقع الدينية المقدّسة للدروز هناك، وسط معارضة السلطات الإسرائيلية وغضبها. وقد بدأت المعركة لضمان التواصل مع الأهل في سورية وزيارة الأماكن المقدّسة هناك منذ عقد تقريبا. وقد استندت إلى مواثيق دولية تتعلّق بحقوق الأقليات والأقليات الأصلانية وحقّها في التواصل مع مجموعة انتمائها في دول الجوار. ولأن جهاز الأمن العام الإسرائيلي هو الذي أدار الملفّ من الجانب الإسرائيلي، رأينا المحكمة العليا في إسرائيل تتراجع عن قرار سابق لها بإجازة الزيارة وفق شروط وقيود زمنية. أما الزيارة الأخيرة قبل أسبوعين فقد جاءت تحديا للإرادة الإسرائيلية، الأمر الذي عرّض الوفد إلى تهديدات من وزراء أو متحدثين إسرائيليين أبرزهم وزير الأمن الداخلي. ما من شكّ في إن الزيارة، في ملابسات حصولها، تُعتبر خروجا عن الهيمنة الإسرائيلية من خلال توكيد الهوية الدينية الدرزية والحق الديني في زيارة الأماكن المقدّسة للدروز في سورية التي يعتبرها القانون الإسرائيلي"دولة معادية". وهو حق ينسجم بشكل عام مع ما يتضمنه القانون الإسرائيلي الموروث عن العهد العثماني في فلسطين وهو"نظام الملّة"الذي يضمن للطوائف مدى ما من الاستقلالية في إدارة الشؤون الدينية ومدى ما من حرية المعتقد والممارسة الدينيين. بمعنى ما، جاء الانتماء الديني ليوفّر للدرزي هنا ملاذا من استحواذ مركز القوة اليهودي. وهي نتيجة لا بأس بها لنضالات وطنية يخوضها دروز عروبيون في إسرائيل جنبا إلى جنب مع سائر العرب للإفلات من قبضة السلطة الإسرائيلية ومشاريعها. لقد شهدنا تضحيات وسنوات من العمل لتحرير الدروز من أسر الدولة اليهودية. ولكن المفارقة كانت لنا بالمرصاد. فما أن خطونا خطوة واحدة في هذا الاتجاه بتنظيم زيارة جماهيرية إلى سورية إذ بالنظام السوري ينقضّ على الفرصة ويكرّسها في مشاريعه ليس ضد إسرائيل بل ضد الوطنيين اللبنانيين لا سيما وليد جنبلاط. فقد فُرضت على الوفد أجندة سورية واضحة رغما عنه واستغلالا لوضعه الحرج. وكان أبرز ما حصل استقدام الشخصية اللبنانية المختومة بالختم السوري، وئام وهاب، المُستخدم كاستئناف درزي على قيادية وليد جنبلاط، ليخطب في الوفد ويرافقه ليوم كامل! علما بأن الهدف المعلن للزيارة هو التواصل الديني الاجتماعي مع الأهل والتطيّب بعطر المزارات الدينية هناك. وقد بدا الوفد محرجا مضطرا لابتلاع الخديعة من جديد. فأعضاؤه الذين أفلتوا، ولو لبعض أيام، من قبضة السلطة الإسرائيلية، اضطروا لقبول أجندة المضيفين السوريين الذي أرادوا احتواء الوفد سياسيا ليس ضد إسرائيل فحسب وكنا سنغفر لهم هذا لو حصل وحده بل ضد قيادات 14 آذار في لبنان وفي رأسها وليد جنبلاط. يُخطئ من يظنّ أن الدروز في إسرائيل لا يعون ما حصل، أو أنهم لا يعرفون الفارق بين وليد جنبلاط الذي تعلّق صوره في بيوتهم على الدوام، وتذكر الأناشيد اسمه في أعراسهم ومناسباتهم، وبين وئام وهاب المنخرط في محور سورية إيران حزب الله الدموي الرابض فوق صدر لبنان وأهله ومصائرهم. وهم يعرفون الفارق بين إرث المعلّم كمال جنبلاط الذي زكّاه التاريخ والعدوّ قبل الصديق، وبين أسماء درزية نكرة من لبنان أو غيره تتحرك أحجار شطرنج بوحي من نظام دمشق أو المتعاونين معه في لبنان. وهم يعرفون تماما حقيقة ما يجري من على الأرض اللبنانية بأيدي النظام في سورية أو أيد عميلة لها! وهم مدركون لنتائج الهيمنة السورية في لبنان وكل ضحاياها الأبرياء بمن فيهم المعلّم كمال جنبلاط! بدا طيلة مكوث الوفد الدرزي في الشام أنه أسير القراءة السورية للزيارة. وبدا المسؤولون السوريون مسرورين بالفرصة التي سنحت لهم! وكان سبقها فرصة أو فرصتان حاول النظام تجييرهما ضد وليد جنبلاط في لبنان لكنه لم يفلح تماما. لا نتوقّع من الإسرائيليين سوى سياساتهم القهرية، علما بأنهم لا يمانعون صراحة أو خفية أي زيارة لمواطنين عرب في إسرائيل إلى سورية أو غيرها من دول الجوار باعتبار ذلك تطبيعا زاحفا وإن لم يكن عبر بوابتها هي أو بإشرافها المباشر. ولا نتوقّع من النظام السوري المتهم بالضلوع في مسلسل الاغتيالات في لبنان سوى أن يقتنص الفرصة لينفخ في قربة مثقوبة. فهو بحاجة للخروج من عزلته العربية أيضا، فجاءت زيارة الوفد ليصوّرها زيارةً للنظام ورموزه علما بأنها زيارة لأضرحة مقدّسة وللأهل الدروز في الشام في الأصل وفي التخطيط. ومع هذا وذاك كنا نتوقّع من قيادة الوفد ومن منظمي الزيارة أن يفطنوا للعبة السورية، أيضا. فالتحرر من هيمنة الدولة اليهودية وقهرها لا يعني شيئا إذا ما تحوّل إلى ارتماء في حضن النظام السوري غير المعروف لا بديموقراطيته ولا بحرصه على حقوق الإنسان والأقليات. بمعنى أن الإنجاز الذي تحقّق بإقناع مئات المشايخ بالزيارة والقفز فوق حاجز الخوف الذي بنته الدولة اليهودية، يتقزّم ويمّحي عندما يأتي شخص كوئام وهاب ليخطب في الوفد ويدلّل على بضاعته! حقّ الدرزي في إسرائيل كسائر العرب فيها أن يتّصل بأهله وثقافته عبر الحدود. وهو حق لهم على إسرائيل وعلى الدولة المضيفة على حد سواء. لكن على القائمين على هذا المشروع ألا يضعوهم مادة إعلانية لصالح نظام يمارس كل شيء سوى حماية الحقوق والكرامات. أما المعركة ضد السياسات الإسرائيلية والتضحيات فإنها تندثر وتذهب هباء إذا ما كانت محصّلتها تحوّل الوفد بزيّه ومهابته إلى صورة في التلفزيون السوري أو خبرا في نشرة"تشرين"الدعائية. لقد بذل العروبيون الدروز في إسرائيل الكثير في سبيل الإفلات من عدسة التلفزيون الإسرائيلي الساعية إلى أسرلتهم أو صهينتهم ولمّا ينجحوا إلا في ما ندر، ليجدوا أنفسهم أسرى عدسة التلفزيون السوري ومشاريع النظام هناك. كما إن الذي حصل ينتقص من مهابة المقدّس الذي نفترضه حجة للسفر والتواصل. ومن شأن ما حصل ألا يشجّع آخرين على خوض تجربة التواصل هذه وما يُمكن أن تتركه في النفوس من أثر طيب. لا إسرائيل ولا سورية تملكان الحق في ابتزاز الدروز في إسرائيل ولا في استغلالهم ورقة لعب الواحدة ضد الأخرى. كما أنني افترض أن الوفد وقيادته لا يقبلان أساساً أن يُستغلاّ من النظام السوري في مواجهته للقوى الوطنية اللبنانية بمن فيها الدروز هناك. إننا نريد لأنفسنا إمكانية للإفلات من الهيمنة الإسرائيلية ومفاعيلها إلى أفق رحب، إلى معقولية عربية، إلى إشراق وتنوير عربيين وديموقراطية واحترام كرامة الانسان وحريّاته، إلى وطنية عربية حقيقية، إلى ثقافة الحياة والإبداع والخلق والنمو، ولا أعتقد أن سورية هي العنوان، بل نراها النقيض المتطرّف لكل ما ذكرناه! وكونها عدوة في عرق إسرائيل لا يجعلها شرعية السياسات والمشاريع ولا جنة عدن في نظرنا نحن الوطنيين، سيما أنه إما أن النظام فيها أقصى وطنييها خارج الوطن أو أودعهم بغير أسماء في غياهب السجون إذ ما حالفهم الحظ ولم تطلهم يد التصفية. ولا أظننا نُحسن صنعا لأنفسنا وأمتنا إن تحرّر الدروز في الدولة اليهودية من خوفهم ليقعوا بين فكيّ النظام في سورية وأعوانه في لبنان. لا تصحّ حركة التاريخ بالإفلات من فلك هيمنة الآخر اليهودي انتقالا إلى فلك هيمنة ذوي القربى في النظام السوري ومشاريعهم! * كاتب فلسطيني.