خلا الخطاب الذي ألقاه الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، خلال مأدبة إفطار في مسجد باريس في أول تشرين الأول أكتوبر الجاري وأعلن فيه عن إنشاء دورات تأهيل علمانية للأئمة الفرنسيين، في إطار المعهد الكاثوليكي، من أي تفصيل للموضوع، مكتفياً بالترحيب بهذه البادرة وبالأئمة من حملة رسالة السلام والمحبة على الأراضي الفرنسية، محذراً من ان من لا يريد حمل هذه الرسالة سيرحّل عن فرنسا. وتولد عن هذا الكلام الذي ورد في حضور ممثلين عن مختلف المنظمات المسلمة المنضوية في إطار"المجلس الفرنسي للديانة المسلمة"، انطباع مفاده ان توافقاً حصل بين أعضاء المجلس على تسوية واحدة من أعقد المسائل المطروحة على صعيد مسلمي فرنسا وهي مسألة إعداد الأئمة. لكن هذا الانطباع سرعان ما تبدد في ضوء ردات الفعل النقدية التي أطلقتها على التوالي، المنظمات المختلفة، التي حرصت على تمييز نفسها عن هذه البادرة، والتأكيد ان موضوع دورات التأهيل في إطار المعهد الكاثوليكي لم يخضع لأي تشاور مع أعضاء"المجلس الفرنسي للديانة المسلمة"الذي يفترض ان يمثل مسلمي فرنسا لدى السلطات العامة ولا يتعدى كونه مجرد اتفاق أُبرم مع مسجد باريس ولا يعني سواه. فالكل يعتبر أن التأهيل الجيد للأئمة يشكل خير ضمانة حيال مخاطر الانحراف، والكل يقر بضرورة تأمين تأهيل خاص، يزود أئمة فرنسا بما يلزمهم من معرفة بتاريخ البلاد وقوانينها ومبادئها، لكن السبيل لتحقيق ذلك هو الذي يختلف في شأنه الجميع. فرئيس اتحاد المنظمات المسلمة الفرنسية تهامي برويز صرح ل"الحياة"ان إلحاق الأئمة بدورات تأهيل علمانية في المعهد الكاثوليكي، امر يعني مسجد باريس، وهذه مبادرة"لا نتبعها ولا نعلق عليها". لكنه يوضح ان جوهر معارضته لهذه المبادرة هو"أننا نريد ان تكون العلاقة بيننا وبين الأخوان من الأديان الأخرى في إطار تعاون وليس في إطار تلقي، وأن التحاق الأئمة بالمعهد الكاثوليكي يجعلهم في"حالة تلقي". يذكر ان رئيس الحكومة السابق دومينيك دوفيلبان كان أعلن ان جامعة السوربون الفرنسية، ستؤمن دورات تأهيل علمانية للأئمة الفرنسيين، وهذا ما يحمل برويز على التساؤل عن سبب رفض الجامعات التابعة للدولة تأمين مثل هذه الدورات، ويؤكد"نحن لسنا في حاجة الى أي تكوين تكميلي للأئمة في مؤسسات غير مؤسساتنا". ويلفت الى أن المعهدين التابعين لاتحاد المنظمات في كل من شاتو شينون وسان دونيه، قادران على جلب مدرسين لتلقين الأئمة الذين يتخرجون سنوياً، وعددهم حوالى 20 إماماً، حصصاً في التاريخ والعلوم الاجتماعية وتاريخ العلمانية"من دون ان نذهب الى جهة دينية أخرى". فعدم قبول السوربون، والجامعة الفرنسية الأخرى التي جرى الاتصال بها، حول الموضوع مرده الى كون الجمهورية"تخجل من المسلمين، وتريد ان تعيدنا الى الهوامش"، في حين ان"ما نريده نحن هو كامل حقوقنا كمسلمين". ويؤكد برويز ضرورة تفهم الأئمة لمعنى العلمانية وقوانين فرنسا"ليتجنبوا المعارضة والتعارض"، كما يؤكد ان العلمانية تشكل إطاراً جيداً يسمح للمتديّن ان يقوم بشعائر دينه. ومن هذا المنطلق فإنه يشير الى انه كان من المفترض ان يعد"المجلس الفرنسي للديانة المسلمة"دفتر شروط مُلزِمة للمعاهد الدينية، لكنه يأسف لعدم قيام المجلس بهذه الخطوة حتى الآن، بسبب الخلافات القائمة بين أعضائه. في هذه الأثناء، وإذا كان لا بد من الاتفاق على صيغة لتأهيل الأئمة فينبغي برأيه ان تكون"بيننا كمسلمين وبين جامعات ليس لديها توجه ديني". وپ"نريد ان نلتقي مع النصارى للتقارب"سواء في المعهد الكاثوليكي أو مسجد باريس أو أي مكان آخر"لكن ان نبعث تلامذتنا للتلقي في معهد ديني فهذا يلغي المساواة بيننا ولا أعتقد بأن إخواننا النصارى يقبلون ذلك". وذكر ان معهدي الأئمة التابعين لاتحاد المنظمات يستعينان أحياناً بكاهن لعرض الدين المسيحي على التلامذة وپ"هذا تواصل، إما ان نقول للمسلم، ينقصك علم اجتماع وعلم تربية وتاريخ وتعالى لأعطيك كل هذا في معهد ديني، فهذا مناف للمساواة بيننا وبين الأديان الأخرى". ويقول رئيس"الفيديرالية العامة لمسلمي فرنسا"محمد البشاري انه لا بد للإمام من ان يكون ممتلكاً للتكوين الشرعي ولا بد من تجديد الخطاب الديني"ليتناسب مع الواقع الذي نعيش فيه"، ولا يكون"خطاباً مستقطباً من العالم العربي مع ما يعنيه ذلك من تضارب في المرجعيات". ويشدد على ان الخطاب الإسلامي للأئمة الفرنسيين ينبغي ان يكون منسجماً مع واقع ابناء الجالية ويلحظ كونهم فرنسيين وليسوا من رعايا الدول العربية. ويشير البشاري الى ان عدد الأئمة الحاليين في فرنسا اكثر من 1500، لكن واحد في المئة منهم فقط لديه تكوين سليم وكامل لمزاولة مهمة الإمام، وهي مهمة بالغة الحساسية في ظل الظروف الداخلية والدولية. لكن هذا لا يمنعه من اعتبار ان الصيغة التي اعتمدت بين المعهد الكاثوليكي ومسجد باريس تنطوي على"استفزاز"خصوصاً انه من الصعب"على المخيلة الإسلامية"تغييب كونها ملحقة بمعهد تابع لديانة أخرى. فأن تقول الدولة ان التكوين العلماني، يعود للمعهد الكاثوليكي يعني برأيه انها"لا تريد تحمل مسؤوليتها"لأن"الإسلام ليس دين الآخر أو دين الأجنبي"وأن ساركوزي الذي يشدد منذ ان كان وزيراً للداخلية على ضرورة نشوء ما يسميه"بإسلام فرنسا"، عليه ان يمكّن إسلام فرنسا من الالتحاق بالطوائف الأخرى عبر تأمين الوسائل اللازمة لذلك. لذلك يرى البشاري ان على التكوين العلماني الذي يحول"دون سقوط خطاب الأئمة في مواقف وطروحات منافية للقيم الفرنسية ان يفتح ابواب معاهد الجمهورية لإعدادهم"، خصوصاً ان فرنسا"لا تريد الآن العمل على الاعتراف الفعلي بالمعاهد الإسلامية"القادرة على تأمين تكوين متكامل ضمن الشقين الديني والعلماني. أما"تجمّع مسلمي فرنسا"الذي يقال انه مقرب من المفكر طارق رمضان، فيقول في بيان نشره موقع"سفير نيوز"على الإنترنت ويحمل توقيع الناطق باسمه علي رهني،"ان تكليف المعهد الكاثوليكي بتأهيل الأئمة هو"محاولة جديدة لوضع اليد على الإسلام". وأوضح البيان ان هذا المشروع الذي أطلق بالتعاون بين المعهد الكاثوليكي ومسجد باريس هو"إهانة لأنه يعني ان المسلمين غير قادرين على تنظيم امورهم من تلقاء أنفسهم"، واستفزاز كونه يعيد الى الذاكرة الحقبة النابوليونية التي أرغم خلالها اليهود على الالتزام بطقوس الكنيسة. ويدعو البيان الذي يحمل عنوان"شكراً لأصدقائنا الكاثوليك"، هؤلاء الأصدقاء الى عدم السقوط في ميل أبدي والقبول بوضع اليد على المسلمين لحساب السلطات العامة الفرنسية، التي تبدي مجدداً جهلها وعدم جدارتها. وسط هذه الاعتراضات والانتقادات، يقول عميد مسجد باريس دليل بو بكر"ببساطة منذ سنوات هناك سعي الى إرساء تعاون مع إحدى الجامعات لتأمين تأهيل علماني للأئمة وعندما وافق المعهد الكاثوليكي على ذلك، فإنه بدوره قبل على الفور". وأشار الى ان هذا التأهيل ليس هدفه سوى"مكافحة الانغلاق وعدم التسامح والعزلة الثقافية خصوصاً انه على مدى سنوات كان إعداد الأئمة مقتصراً على دراسة القرآن والمطلوب الآن أئمة منفتحون ومتنورون ومعتدلون". وللاطلاع على الموقف الفرنسي من الاعتراضات التي يثيرها تأهيل الأئمة في إطار المعهد الكاثوليكي كان لا بد من الحديث مع المسؤول عن العلاقة مع الإسلام لدى المكتب المركزي للأديان في وزارة الداخلية الفرنسية برنار غودار، الذي تولى العمل على المشروع ويمتلك بحكم عمله معرفة واسعة ودقيقة بأوضاع مسلمي فرنسا الذين خصّهم بكتاب صدر اخيراً، ويشكل مرجعاً هاماً في هذا المجال. ويأسف غودار لكون المشروع، على رغم طابعه المدني البحت يثير اعتراضات في اوساط غالبية المنظمات الإسلامية، وهو لا يتوانى عن التعبير عن استغرابه للاعتراضات التي أطلقها"اتحاد المنظمات المسلمة الفرنسية"، ويقول ان مثل هذه المواقف مثيرة للدهشة من جانب"أخوان مسلمين". ومرد الاستياء الأساسي هو التحاق الأئمة بمعهد كاثوليكي وهو ما يجعلهم يطالبون بالاستعاضة عن هذا المعهد بمؤسسات تعليمية علمانية، ما يحمل غودار على التساؤل، هل هم علمانيون؟"، ويضيف:"قبل ان يبدأوا بالوعظ والقول انهم يريدون التعامل مع الدولة العلمانية فليبدأوا هم أولاً باتباع العلمانية". فهم"ليسوا في موقع يتيح لهم التعبير عن مثل هذا الموقف". ويروي غودار انه في"بداية العمل على المشروع تم التوجه الى الجامعات الفرنسية لتكليف إحداها بتقديم إعداد علماني للأئمة، لكن إداراتها ومجالس أساتذتها رفضت تولي ذلك، في المقابل فإن كلية العلوم الاجتماعية في المعهد الكاثوليكي التي لا تختلف عن أي كلية فرنسية أخرى سوى بكونها خاصة وافقت على ذلك". ولا يرى غودار ما يبرر الاعتراضات والاستياء الناجم عن هذا الخيار، خصوصاً انه خيار غير ملزم لكل الأئمة بل هو طوعي، كما لا يرى مانعاً من تردد أئمة الى مؤسسة كاثوليكية، خصوصاً انه يتولى شخصياً عدداً من الحصص التعليمية المتعلقة بمادة التاريخ في إطار المعهد الديني الملحق بمسجد باريس. والمشروع لا يتعدى كونه محاولة لإطلاع الأئمة الذين يأتون من الخارج على أوضاع فرنسا الثقافية والاجتماعية، اضافة الى معرفة اللغة الفرنسية، ومثل هذا التأهيل لا يمكن ان يصبح ملزماً في المستقبل لأنه ليس من حق الدولة التدخل في شؤون الأديان، وفقاً لغودار. وعن اسباب عدم التشاور في الموضوع مع المجلس التمثيلي لمسلمي فرنسا، يبدي غودار اسفه لكونه"من المتعذر القيام بأي شيء مع المجلس المتوقف عن العمل منذ اكثر من سنة ونصف السنة"، وهذا"ما حملنا على التعاون مع أحد مكوناته وهو مسجد باريس لأنه في أوقات معينة لا بد من التحرك والإقدام على خيارات، وما لا يمكن ان نفعله مع المغاربة في إشارة الى الفيديرالية العامة لمسلمي فرنسا ولا مع"الأخوان المسلمين"اتحاد المنظمات لأنهم سيئو النية ومناهضون للعلمانية، نفعله مع سواهم. ولهذا السبب يقول غودار، قررنا العمل مع مسجد باريس، وإذا أبدى المغاربة لاحقاً رغبتهم بالانضمام الى هذه الدورات فمرحباً بهم. وعلى رغم النقمة التي أبداها حيال اتحاد المنظمات الذين قال"إنني أعرفهم منذ عقود وأعرف انه من المستحيل العمل معهم، لأنهم دائماً على تعارض مع أي اقتراح يقدم إليهم"، فإنه اعتبر ان الانتقادات الأكثر أهمية للمشروع هي تلك التي صدرت عن"تجمع مسلمي فرنسا"، كونها تشير الى تواطؤ بين الدولة والأوساط الكاثوليكية لفرض هذا وذاك على المسلمين. والسجال حول هذا الموضوع مثل السجالات الأخرى المتصلة بشؤون فرنسا، لكنه لن يحول دون التحاق حوالى 30 إماماً بكلية العلوم الاجتماعية في المعهد الكاثوليكي ابتداء من مطلع السنة 2008 المقبلة، لاتباع دورة تأهيل مدتها سبعة شهور.