الى غادة السمّان لم أعرف بشير الداعوق. لكنني عرفت دار الطليعة باكراً. طفلاً في قرية جنوبية نائية أوفّر القرش تلو الآخر من"خرجيتي"الشحيحة لتصير القروش ثمن كتاب في نهاية الشهر. وفي قرانا لم يكن من سلوى سوى الكتاب. لا ملاعب، لا منتديات آنذاك، لا مسارح ولا صالات سينما حتى الآن، ولا وسائل لهو وترفيه، وما كان لنا سوى الانطلاق في الحقول الفسيحة والتعفر بالتراب والتمرغ بالأعشاب المُوحِلة، وكنا جميعاً كشاعرنا ايليا أبو ماضي نخوض في وحول الشتاء متيمنين مهللين ونعود بالأغصان نبريها سيوفاً أو قنا. كانت الحقول والبراري ملاعب طفولتنا الشقية الشيقة الشاقة الى أن بدأ الوعي يتفتح برفقة الشقائق والنرجس والسوسن وبدأنا"نفك الحرف"ونستظهر الدروس والقصائد ونحفظها عن ظهر قلب. ثم رحنا لاحقاً نكتشف الكتب الأمتع من الكتاب المدرسي، والتهمنا الروايات والدواوين عسانا نشبع جوعاً عتيقاً الى المعرفة والاكتشاف. كان أبناء جيلي من أبناء القرى يتبارون في جمع الكتب ويتباهون في ما بينهم أياً منهم مكتبته أكبر من مكتبة الآخر. وما كنا نسميه مكتبة تلك الأيام هو في الحقيقة رفٌ أو رفوف قليلة نثبتها في الحائط و"نصفّ"الكتب عليها صفاً ونفاخر بها الأهل والأتراب. وكنت أجمع قروشي المعدودات لأشتري كتاباً أو أكثر نهاية كل شهر. ومن حسن حظي أن صديقاً لي من أبناء القرية اسمه علي كان يعمل في بيروت، وأين؟ في دار الطليعة. وبما انه موظف في الدار كان يحق له حسم خاص على أسعار الكتب. وهكذا رحت أقتني الكتب تباعاً. أوفر ما أستطيع اليه سبيلاً أعطيه لعلي فيبدل لي النقود كتباً لا تُقدر بثمن، ولولا تلك الكتب وتلك القراءات الأولى النهمة لما استطعت فتح بابٍ واحد من أبواب الحياة. راح علي يزودني بالكتب ورحت أقرأها بنهم عارم. روايات، تراجم، فلسفة، ماركسيات... الخ، الى أن وقعت على اسم صار له وقت الدهشة في نفسي. انه اسم غادة السمّان التي كانت ترفق عناوين كتبها ورواياتها بتلك العبارة اللافتة"الأعمال غير الكاملة"مخالفةً ما هو شائع لدى الأدباء من وصف أعمالهم حين تصدر معاً بالأعمال الكاملة، وطبعاً لم تكن تلك العبارة هي الأمر الوحيد الذي تخالف به غادة ما هو شائع ومألوف. اعترفتُ مراراً بأن الأثر الأكبر في تكوين وعيي الأدبي المبكر كان لغادة السمّان التي قالت لي يوماً"أنت من الكتّاب القلائل الذين يعترفون بأن امرأة كاتبة تركت فيهم أثراً". واليوم أقول لغادة إن الأثر كان كبيراً ومبهراً تماماً كما بهرتني في"بيروت 75"و"كوابيس بيروت"و"لا بحر في بيروت"و"السباحة في بحيرة الشيطان""أعلنت عليك الحب"و"الحب من الوريد الى الوريد"و"ليلة المليار"و"القمر المربع"و"سهرة تنكرية للموتى"وسواها من أعمال حفرت عميقاً في الذاكرة والوحدان وشكلت مدماكاً أساساً من مداميك الوعي الأول. ولا أنسى الوجه الرائع لغسان كنفاني الذي ازحتِ النقاب عنه حين نشرتِ رسائل حبه لكِ فبدا عاشقاً فذّاً تماماً كما هو مناضل فذّ. الكتابة عن غادة السمّان أو لها تطول ولا تتسع لها زاوية أو صفحة كاملة أو عدد كامل من جريدة، لكنني أتذكّر ما أتذكّره لأقول إن احترامي لبشير الداعوق مناضلاً ومثقفاً ومنشِطاً للحياة الثقافية ازداد كثيراً حين عرفت أن زوجته هي غادة السمّان. فمن يجرؤ على الاقتران بتلك اللبوة المتمردة رجل نادر وشجاع، وتلك صفتان أكيدتان في بشير الداعوق الذي نشعر بفقدانه بمرارة الخسارة، مثلما نشعر بفقدان الحياة السياسية والثقافية لرجال من قماشته أغنياء النفس والعقل وغير محكومين بعقد النقص الكثيرة التي تصيب واقعنا، الثقافي خصوصاً، بكثير من العيوب والتشوهات. بشير الداعوق اسم لبيروت. وعلامة فارقة من تلك العلامات التي تجعل المدينة أكثر مدينة وأكثر مدنية، وإذ يغادرها في الزمن الصعب فإنه يعرف ولا شك مقدرتها على التمرد والعصيان والبقاء مدينة مستمرة على الدوام، ويذهب بي الظن الى أن حبه لغادة عائد في أحد أسبابه لكون تلك الدمشقية الرائعة على شبه كبير بمدينته التي أحب، فكلتاهما تستحق وبلا جدال صفة التمرد والعصيان. لقد شاركتني غادة السمّان حزني يومَ رحلت والدتي عن هذه الفانية، ومزجت عطر حبرها بملح دموعي، لكن أنّى لي قلمها لأبثَّ بعض العطر في دمعها النبيل حزناً على رفيق العمر وشريك العزلة والأوجاع. وهل لي أن أذكّرها بجملتها الأثيرة عندي"ابني الروحي"تخاطبني بها كلما أهدتني كتاباً أو بعثت بطاقة بريدية، وماذا لي أن أكتب سوى أنني خسرت"والداً روحياً"لا لأن زوجته تسميني ابنها الروحي، بل لأن الرجل حقاً مثابة والد روحي لجيل كامل من أمثالي الذين لم يعرفوه إلا اسماً في كتابٍ أو صحيفة وواحداً من طليعة القوم، وحزني بالغ إذ أقرأُ الاسم الحبيب في صفحة وفيات، لكنها حال الدنيا والموت حق.