محمد البساطي واحد من أكثر الروائيين المصريين مكراً، يشغل قارئه بشيء وهو يقصد شيئاً آخر، فيبدو كما لو كان يلاعب القارئ اليقظ، ويستفز ذكاءه لكي يجيب عن الأسئلة المعلقة التي يثيرها ظاهر النص في علاقته بباطنه، وذلك من غير توقف عند الظاهر المراوغ الذي لا يقصد لذاته أحياناً، ولا يكتمل معناه في غيبة إدراك العلاقات المتعددة التي تصل أسطح الظاهر بمستويات الدلالة المضمرة في أحيان أخرى. ووجه المكر في هذا النوع من الكتابة أنها تخدع الأبرياء، خصوصاً أولئك الذين يتوقفون على السطح الظاهر، ويغويهم بريقه أو التباسه فيقعون في شراكه، ناسين أن هذا السطح الظاهر هو الجزء الأصغر من جبل الجليد العائم. فعل محمد البساطي ذلك في روايته السابقة "فردوس" التي انشغل الكثيرون بسطحها الذي يناوش موضوع تيمة سفاح المحارم، حيث المحاولات المتكررة لابن الزوج الاعتداء على زوجة الأب التي لم تخل من رغبات الغواية، ولم تكف عن إرسال إشاراتها. والتفت القليلون إلى عملية التمثيلات المتوازية التي انطوت عليها متناصات رواية "فردوس" التي كانت تهدف إلى "المعارضة" أكثر من المحاكاة. وقد نسي الكثيرون - في تلاعب البساطي الماكر بمفارقاته - أن "فردوس" التي تظهر على السطح المغوي لروايتها هي رأس الجبل الجليدي العائم الذي يشير إلى ما هو أكبر منه، وما لا تكتمل دلالته إلا به، وهو علاقات القمع الموروثة التي لا يزال ينطوي عليها الواقع المصري، ولا تزال تمارس على نحو يهدر إنسانية الإنسان، ولا يتوقف عن إسقاط الضحايا الذين تنتسب إليهم "فردوس" التي تظل إحدى أمثولات القمع المتجسَّد في المرأة الريفية خصوصاً. و"فردوس" - في هذا السياق - واحدة من النساء اللائي يصوغهن سرد البساطي في رواياته المتعددة، ليكشف عن مظاهر القمع المضاعف الذي يقع على المرأة عموما، والمرأة الريفية خصوصاً، فالمرأة الريفية - في روايات البساطي- هي التجسيد المكثَّف للقهر، ذلك على رغم أنها عماد البيوت ووتد الأسر ومصدر الجمال الذي يضاهي جمال الطبيعة أو يتحد به. والتركيز السردي على نماذج هذه المرأة هو تركيز على الأمثولات التي تكشف عن مفارقات القمع في تراُيديات المقتولين القتلة التي ينطوي عليها عالم القامعين والمقموعين، أو عالم القامعين المقموعين في آن. ولن يكتشف الدلالات المتنوعة والمراوغة لأمثولة "فردوس" من يتوقف عند مجرد الالتباس المقصود من مقاربة موضوع تيمة سفاح المحارم بين الابن وزوجة أبيه، أو بعض أوجه التشابه بين رواية البساطي "فردوس" ورواية يوسا "مديح الخالة". ويفعل البساطي الأمر نفسه في رواية "أوراق العائلة" التي صدرت اخيراً عن "دار الهلال" في القاهرة، فالرواية تنبني على صدارة مغوية تجذب الانتباه إليها، ولكنها أشبه بالزجاج المعشّق، يلفت الانتباه إلى تعدد ألوانه وتنوع أشكاله في ذاته، غير أنه لا يمنع - مع ذلك - من الإشارة إلى ما وراءه، وما لا يكتمل معنى التعشيق إلا به. في صدارة الرواية، تيمة سفاح المحارم التي يعود البساطي إلى مناوشتها بعد أن تلاعب بها في الرواية السابقة: "فردوس". لكنه في الرواية الجديدة لا يغوي القارئ بعلاقة ملتبسة بين ابن وزوجة أبيه، وإنما بين الأب وزوجة ابنه، مخاتلا ومناورا ومناوشا، ومستغلا الإيحاءات المتعددة لعشرات المتناصات التي ينطوي عليها الوهي القارئ، ذلك الذي يمكن أن يتذكر بعض الروايات أو الأعمال الفنية، في سياق هذا النوع من علاقات المسافحة. وتتوزع "أوراق العائلة" ما بين أربعة أجيال: جيل الجد الأكبر كامل وزوجته فهيمة، وجيل الجد شاكر وزوجته زينب، وجيل الأب طه وزوجته، وجيل الحفيد الذي يتولى السرد، ويقّدم إلينا من وجهة نظره "أوراق العائلة"، وذلك بضمير المتكلم المباشر الذي يعرض الأحداث في علاقتها بالشخصيات، أو العكس، من منظور السارد، ولكن من غير أن يمنع ذلك من تعدد الأصوات، أو من استماعنا إلى تمثيلات كل جيل بصوت وعيه الذاتي أحيانا، أو بصوت التعليقات التي تقال في ثرثرة النساء أثناء أعمال البيت. وينتج عن ذلك تعدد المستويات اللغوية للنص، سواء في تباين تنويعات الفصحى أو مغايرة الاستخدامات العامية للغة التي لا تخلو من إحساس شعري يقترن بدرجة عالية من كثافة التركيز والبعد عن الثرثرة أو الإطناب. وكما تنقسم الرواية إلى أجيال، من المنظور الزمني للتعاقب، تنقسم إلى فضاءات متجاورة على مستوى التتابع المكاني، ولكن بما يؤكد الانفصال الذي لا يمنع من سريان تجليات نوع محدد من العلاقات التي تكشفها علاقات السرد. ومن هذا المنظور الأخير، ينطوي التتابع بين الأجيال على نوع من التكرار الذي يستعيد به اللاحق ما فعله السابق، ويضيف إليه ما هو من جنسه، وما هو من غير جنسه في الوقت نفسه. ولذلك لا ينطوي التكرار غير المباشر على ما يلفت الانتباه إليه للوهلة الأولى، فالتكرار يراوغ في حضوره بواسطة التنازل عن موضع الصدارة لغيره، واستبدال ملامح مضافة ببعض ملامحه الدالة، والنتيجة هي التفات العين للوهلة الأولى إلى الثانوي لا الأساسي، أو إلى غوايات سطح جبل الجليد العائم، وليس إلى بقية الجسد المختفي تحت الماء، أو بقية الدلالات المضمرة في علاقات السرد التي تخفي مراوغاتها ببساطة آسرة وخادعة. وهي بساطة تنتسب إلى السهل الممتنع، لكن الذي تتحول سهولته الظاهرة إلى علاقات معقدة، تتباعد عن البساطة في تأمل تفاصيلها التي لا تفتقر إلى عنصر السخرية، في امتزاجه بالمفارقة التي تبعث على الابتسام والتأمل في الوقت نفسه. ومن الطبيعي - مع مراوغات الكتابة - أن ينشغل قارئ الرواية عن العنصر المتكرر بين الأجيال بغواية مقاربة موضوع سفاح المحارم، فظاهر الرواية يدور حول الجد الأول كامل الذي بهره جمال الصبية زينب فذهب إلى خطبتها لابنه، ولكن ابنه لم يكن كفؤا لها لأسباب عديدة، لا تخلو من التلميح إلى ضعف جنسي يتخفى وراء التظاهر بمغامرات جنسية جوفاء نسمع، أو نقرأ، عن بعضها. وتنصرف الصبية عن الزوج إلى أبيه، وتتعلق به كما تعلق هو بها، وتمضي العلاقة بينهما ملتبسة، لا ينطق السرد حقيقتها على نحو مباشر. وهي تقنية ماكرة أخرى من التقنيات العديدة في جعبة المكر الريفي الذي ينطوي عليه البساطي، فسرده وحواراته لا ينطق مباشرة ما يريد توصيله، ولا يحكي بصراحة ما يقع، وإنما يناور ويداور، ويحوم حول القصد من دون إشارة مباشرة إليه، مستعيناً بالكنايات والتوريات التي تنطق ولا تنطق، وتلمح من دون أن تُصَرِّح. ولذلك تمضي العلاقة بين الأب وزوجة ابنه، يهجس بها الكثيرون ويتحدثون عنها، لكنهم - مثلنا- لا يجدون قرائن مباشرة تثبت ظنونهم. ويستمر الوضع على هذا النحو إلى أن تلد زينب ابنها الوحيد طه الذي تلفتنا تجليات حضوره في السرد إلى ما يشبه خطيئة كبرى لا تزال تلح عليه، وتترك أثرها في روحه التي تميل إلى الوحدة، وتنعزل بصاحبها فيما يشبه الشعور بالذنب الذي ينفجر في نوبات بكاء متوحد في ظلمة الليل. هذا الظاهر هو ما يراوغ القارئ، وما يغري به البساطي كي يدفعنا إلى الانتقال من اللازم إلى الملزوم، أو من الظاهر إلى الباطن، لكن بعد أن يستمتع بغواية الظاهر، ويلتفت إلى أن "أوراق العائلة" هي الوجه الآخر لرواية "فردوس" في التباس سفاح المحارم. ولعل البساطي قصد بذلك إلى إكمال الدائرة في مقاربة الموضوع نفسه، أو لعله - في نوع موازٍ من المكر - أراد صرف انتباه بعض الذين ظلموه واتهموه بمحاكاة رواية يوسا "مديح الخالة" مع أنه لم يفعل ذلك بالقطع. وأغلب الظن أن البساطي سيجلس سعيداً وهو يرى محاولات الإجابة عن السؤال المعلق: هل طه هو ابن ابيه شاكر، أم ابن جده كامل؟ وهل وقع سفاح المحارم أم لا؟ وهو لم يقصّر في الأمر، فقد نثر على امتداد الرواية كنايات وتوريات تغري بالاستنتاج، ولكنه لم يقل - بوصفه روائيا ماكرا - شيئا صريحا عن حدوث علاقة سفاح المحارم، غير أنه - وهذا هو المهم - استفز القارئ المتعجل بالسؤال المعلق الذي يظل حائما في السرد، وناوش القارئ المتأني بقرائن أخرى تضع السؤال المعلق نفسه في سياق أكثر اتساعا وشمولا وعمقا، ومن ثم تصل السطح الظاهر بالسطح المطمور من جبل الجليد. وعندما يفعل القارئ المتأني ذلك يكتشف أن الرواية تدور حول العلاقات القمعية بين البشر، وداخل خصوصية التراتب الاجتماعي الأبوي في المجتمعات الريفية على وجه العموم... يظلم الجد الأكبر زوجته فهيمة، يعاملها كما لو كانت إحدى الدواب التي يمتلكها، أو قطع الأرض التي نسي متى اشتراها، ويتسلط في ظلمه لها معيداً إنتاج الموروث الاجتماعي والثقافي والديني الذي يجعله الأعلى بسبب الذكورة والثروة، فينتهي الأمر بالزوجة إلى أن تذوي كالشجرة التي تتيبس بعد ثمرها الأول. وسرعان ما تختفي من السرد تاركة الجد الأكبر وحيداً، محروماً من مشاركة امرأة محبة. وتتكرر مأساة الجد الأكبر مع ابنه شاكر الذي يقع عليه ظلم أب أهمله طويلا، تاركا إياه مقموعا بالنبذ، وعندما يلتفت إليه، يكون الابن قد أخذ في إعادة إنتاج القمع الواقع عليه، كي يوقعه على غيره... ويتحرك طه في السرد كالظل المتمرد على أصله، لكن المعذَّب بآثام الأصل الذي ينطوي عليه، والذي هو بعض منه على رغم كل محاولات خلاصه. ويسعى إلى الانفصال مكانياً، لكن مع الإبقاء على علاقات المجاورة التي تؤكد الصلة بالأصل، فيبدو مغايرا في علاقته بابنه الذي يمضي في تعلمه، وفي علاقته بزوجته التي لم تخرج عن الدائرة الاجتماعية المقدورة على المرأة، ولكن المتمتعة ببعض المباهج الظاهرية لزوج عطوف متفتح مرهف المشاعر. ولكن لأن طه يحمل ميراثا ينوء به، ولا يستطيع أن يتمرد تماما عليه، أو يتحرر كاملا منه، فإنه يذوي بدوره، وتنمو بذرة الدمار الذاتي داخله، فينتهي إلى الموت، تاركا ابنه الموزع بين صورة الأب وصورتي الجد الأصغر شاكر والجد الأكبر كامل والمحاصر بالحكايات التي تضعه، دائما، في حضرة تاريخ العائلة المتمثل في أوراقها وحكاياتها وأسرارها المعروفة وغير المعروفة. ويتحرك الحفيد حركة الراوي من أول السرد إلى آخره، عارضاً كل شيء في علاقات المنظور الذي يسعى إلى توصيله إلينا، لافتا انتباهنا إلى أسئلته المضمرة: هل ستمضي دورة التكرار في مدى لا نهائي يصيب الحفيد؟ أم أن الحفيد يحاول أن يتمرد على ما يجسِّده تاريخ العائلة من أفعال قمع متعددة الأبعاد والأوجه والمستويات؟ وهل يمكن للقمع أن ينفصل عن أسبابه فيختفي، متيحاً للحضور المحبط المقهور أن يكتمل بعيدا عن الإحباط والقهر؟ مثل هذه الأسئلة هي التي تدفع الحفيد إلى البحث، مندفعا برغبة في الانعتاق من سلبيات تاريخه. ولذلك يسعى إلى البحث عن "أوراق العائلة" وفيها، فهو يريد أن يعرف الأسباب ولوازمها، منطويا على هاجس امتلاك المعرفة الذي يؤدي إلى القوة في مواجهة الموضوع المعروف. ومادامت المعرفة تملك للمعروف، والفهم امتلاك للمفهوم، فالسعي وراء أوراق العائلة أو تاريخها هو السعي إلى الكشف عن العناصر المسكوت عنها، وذلك بما يجعل الحفيد في حضرة تاريخه الذي يمتلكه، لا بقصد تكراره بأخطائه وآثامه وألوان قمعه، وإنما بقصد صوغ تاريخ مواز، مغاير، تاريخ لا يتنكر لأصله، ولكن يجاوزه بما يؤكد حضوراً مناقضاً للقسوة والهجرة والحرمان والامتهان الجسدي ونزعات الامتلاك والتسلط والظلم. هل يفلح الحفيد في فعل ذلك؟ لا نعرف سوى انه بعد أن تنصت على ثرثرات النساء الكاشفات عن الأسرار. وبعد أن عرف كل ما في مظروف "أوراق العائلة" من خبايا، أغلق الظرف المهترئ، وأعاده إلى درج المكتب، وانتهت الرواية، مخلفة فينا أسئلة معلقة كي نجيب عليها بأنفسنا، لأننا - نحن أيضا- نمتلك "أوراق عائلة" تدفعنا رواية البساطي - ضمنا - إلى استحضار ماضيها والنبش فيها لإنطاق المسكوت عنها من تاريخنا القامع والمقموع.