في صيف العام 2004، اجتمعت مجموعة من الخبراء والدارسين تعمل في إطار بحوث مشتركة حول الرعب والأعمال الفنية المرعبة، في جامعة الملك البريطانية، واشتغلت أسبوعين تفحصت خلالهما عشرات الأفلام المعتبرة على مدى تاريخ الفن السابع الأفلام الأكثر إثارة للرعب، وقررت في النهاية أن فيلم الرعب الأكثر كمالاً في تاريخ السينما هو فيلم"الإشراق"ذي شانينغ للأميركي الراحل ستانلي كوبريك. طبعاً كل الذين شاهدوا"الإشراق"منذ عروضه الأولى 1980، لم يكن لديهم أدنى شك في ان النتيجة ستكون على هذا النحو. هؤلاء يعرفون منذ ذلك الحين أن ليس في تاريخ السينما فيلم يضاهي"الإشراق"في رعبه وفي اشتغاله على الإنسان وقلقه وطبيعته المرتعبة. لكن الجديد في تلك الدراسة الجامعية، هي أن العلماء وضعوا عدداً كبيراً من المقاييس العلمية، في الشكل والمضمون، وراحوا يطبقونها على الأفلام التي درسوها. ومعنى هذا ان العلم التطبيقي جاء ليدعم ما أشارت إليه الأحاسيس منذ زمن طويل. ولكن، يومها، في مقابل كل الذين وجدوا نتيجة البحث منطقية، كان ثمة شخص واحد على الأقل، لم تسره تلك النتيجة. وكان هذا الشخص هو ستيفن كينغ الكاتب الأميركي الذي اشتهر بكون أعماله تعتبر الأكثر رعباً بين كل النصوص التي كتبت في مجال هذا النوع خلال العقود الأخيرة من السنين. وطبعاً لم تكن الغيرة ما ضايق كينغ، إذ نعرف انه هو صاحب الرواية التي اقتبس منها ستانلي كوبريك فيلمه هذا. ما أزعج كينغ هو انه كان منذ شاهد الفيلم، المأخوذ عن روايته، للمرة الأولى، غضب وثار واتهم المخرج بتشويه عمله. ولقد ظلت ثورته مندلعة سنوات طويلة، وحتى بعد اجماع كل النقاد وملايين المتفرجين على روعة الفيلم وقوته، وبعد استفتاءات عدة وضعت"الإشراق"في مكانة أولى بين أفلام الرعب، ثم بخاصة بعد رحيل كوبريك سنة 1999، وهو في قمة مجده. كل هذا لم يخفف من حدة غضب ستيفن كينغ، ولا خفف منها، الفشل الذي كان من نصيب اقتباس تلفزيوني للرواية نفسها تحت إشرافه، رداً على"إساءة فيلم كوبريك له"، لكنه لم يقنع أحداً. مهما يكن من أمر، وسواء رضي ستيفن كينغ أو لم يرض، يبقى"الإشراق"فيلماً كبيراً. لكنه يبقي كبيراً، بالتحديد، انطلاقاً من اشتغال كوبريك عليه، هو الذي وهنا يمكننا أن نعطي بعض الحق لستيفن كينغ بالفعل ابتعد كثيراً عن جوهر رواية الكاتب، ليستحوذ على الموضوع كلياً محققاً فيلماً ينتمي إليه وإلى سينماه. فيلماً ينطبق عليه ما يقال دائماً عن كل فيلم من أفلام كوبريك وفحواه أن هذا المخرج الذي لم يحقق سوى 13 فيلماً طويلاً خلال ما يقرب من نصف قرن، جعل كل فيلم من أفلامه صاحب الرقم الأول في تراتبية كل نوع سينمائي. ففيلمه"اوديسا الفضاء"يُفَضّل على كل أفلام الخيال العلمي. وپ"لوليتا"يتميز عن كل الأفلام التي تناولت أميركا الستينات من خلال حكاية حب وجنون؟ وپ"دكتور سترانغلاف"أقوى أفلام الحرب الباردة والخطر النووي"وپ"دروب المجد"صرخة مميزة في وجه قسوة الحرب وجنونها؟ وفيلمه"سترة معدنية كاملة"من أروع ما حقق عن حرب فييتنام واحتجاجاً عليها... وهكذا. ومن هنا لن يستغرب أحد ان يكون"الإشراق"أفضل أفلام الرعب. لكن اعتبار"الإشراق"فيلم رعب فيه، في الحقيقة، انتقاص كبير من قيمته. حتى وإن كانت هذه الصفة تليق تماماً به لو انه حقاً تبع خطى الرواية التي اقتبسها. ذلك أن"الإشراق"صار بين يدي كوبريك أكثر من هذا: صار فيلماً عن الطفولة، وعن التفكك العائلي، عن أزمة الإبداع، وبخاصة عن الجنون... ذلك الموضوع الذي كان دائماً موضوعاً مشتركاً بين كل أفلام ستانلي كوبريك. لقد التقط هذا الأخير، جوهر ما يمكنه قوله من خلال هذا العمل، ليحول الرواية إلى ما هو أعمق كثيراً مما كانت تحمله. ومن هنا تحديداً كان احتجاج ستيفن كينغ الذي بالكاد تعرف في الفيلم على روايته. لكن هذا كان لحسن حظ السينما. ولحسن حظ متابعي سينما كوبريك الذين، وبكل بساطة، شاهدوا في"الإشراق"استمرارية لهذه السينما. وكان هذا مفاجئاً لهم، بعدما ظلوا طوال اشتغال المخرج على الفيلم، قبل عرضه، يتساءلون عما جاء صاحب"أوديسة الفضاء"وپ"لوليتا"يفعله في حكاية عن كاتب وزوجته وابنه، ينتقلون إلى فندق جبلي نائي مقفل خلال فصل الشتاء لحراسته. وهي مهمة قبل بها الكاتب جاك تورانس أدى الدور ببراعة استثنائية جاك نيكلسون، كي يتمكن في تلك العزلة من إنجاز رواية جديدة له لا يعرف كيف ينجزها؟ الموضوع بسيط، نظرياً وهو متشعب الأبعاد: فهناك الطفل داني، الذي اخترع من أصبعه رفيقاً له يكلمه في عزلته ويكشف له بعض المستقبل. وهناك الزوجة الخاضعة لزوجها تساعده في عمله انما ببلادة. وهناك جاك تورانس الذي لا يريد من الحياة إلا ان يكتب. ولكن، في المقابل، هناك الفندق، الغائص وسط الثلوج والذي سنكتشف بالتدريج ان فيه استباحاً وحياة موازية، وبخاصة ذكريات رجل قتل طفلتيه ذات يوم. هذا العالم كله يبدو، للوهلة الأولى، عالم ستيفن كينغ بامتياز. ولكن بالتدريج، وإذ تحول الفيلم ليصبح عملاً جوانياً، يتناول في المقابل الأول انسداد أفق الكتابة أمام تورانس، ثم جنونه ولقاءاته بشبح الأب القاتل، وصولاً إلى تحريض هذا له على قتل زوجته وابنه، نصبح أمام فيلم آخر يدور ربما داخل ذهن جاك تورانس وجنونه، ويصبح الفندق كله بواقعه وخيالاته جزءاً من عقل الكاتب. والحقيقة ان التوتر والقلق يتحولان بالتدريج إلى رعب يسري فينا نحن المتفرجين كعدوى وباء ما، يجعلان هذا الرعب مرتبطاً، ليس بالمشاهد التي تفترض بها ان ترعبنا مشاهد الأشباح والدماء والجثث ومطاردة تورانس لزوجته وابنه في ممرات الفندق وطوابقه، بل يصبح مرتبطاً بلقطات ومشاهد يفترض ألا تبدو مرعبة، نظرياً: فمثلاً يصبح الرعب ممثلاً في رقم غرفة يمر الفتى داني قربها، وفي طابة كرة مضرب تعبر الممر، في أوراق مكومة أمام آلة الكتابة في بهو الفندق حين يجلس جاك معظم ساعات يومه وهو يكتب ويكتب، ليتبين لنا ? ولزوجته المرعوبة ? ذات لحظة، انه انما يكتب جملة واحدة تنم عن مدى ما وصل إليه من جنون... الرعب في الفيلم يأتي في هذا السياق ليبدو في نهاية الأمر رعباً ذهنياً، لا رعباً بصرياً... والحقيقة أن قوة الفيلم، وقوة تدخل كوبريك فيه يكمنان في هذه النقطة بالذات. في هذه المشاهد التي تبدو عادية إن نحن نظرنا إليها في استقلاليتها، وقارناها بصرياً بأنهار الدماء وجنون القتل وحضور الأشباح. لكنها ستكون هي من يبقى معنا بعد ان ننسى كل المشاهد الأخرى في"الإشراق" فيلم"الإشراق"هو على أية حال واحد من الأفلام التي يصعب التعبير عنها بلغة الكتابة، ولا يمكن للقارئ ان يدرك كل محمولها إلا حين يراها. ومع هذا فإن كوبريك استغل كعادته، بدأب وقوة على مجمل عناصر الفيلم، من التصوير الذي جعله يحمل دلالات استثنائية، منذ اللقطة الأولى لسيارة آل تورانس تتجه إلى الفندق، وهي لقطة تبدو ملتقطة من أعلى السماء للطبيعة المغطاة ببياض الثلج ملتهمة السيارة وركابها، حتى النهاية حين نرى جاك ميتاً محاطاً بثلج جمده، مروراً بتوليفات رائعة للقطات تنتمي إلى فن"الهيبر رياليزم"في البار، أو في المراحيض. فإذا أضفنا إلى هذا اشتغال كوبريك على موسقة الفيلم انطلاقاً من أعمال ذات دلالة لبيلابارتوك وغيورغي ليغيتي، وراشيل الكند... نكون قد أحطنا بتلك الأبعاد التي ما استخدمها المخرج إلا كي يوضح أكثر أزمة بطله التي قادته إلى جنونه. ونذكر ان"الإشراق"يحمل الرقم 11 في مسار ستانلي كوبريك السينمائي، وهو لم يحقق بعده سوى فيلمين مع انه أنجزه قبل وفاته بتسعة عشر سنة. ولم يكن هذا مستغرباً من كوبريك الأميركي الذي بارح أميركا غاضباً أول ستينات القرن العشرين، ليمضي بقية حياته في إنكلترا التي سيموت فيها، محققاً فيلمين في كل عقد مشتغلاً ببطء وهدوء على أفلام كان كثيراً ما يقتبسها من أعمال أدبية، وبدت شديدة التنوع، جواً ونوعاً وموضوعاً... لكنها إذ تشاهد وتقرأ معاً، ستقول لنا انها في مواضيعها وارتباطها بإبداع مخرجها، إنما تشكل كلاً واحداً.