عاد ملف الفيدرالية يطرح نفسه ساخنا على العراقيين بعد قرار 1535 غير الملزم الذي صادق عليه مجلس الشيوخ الاميركي بغالبية أكثر من ثلثي أعضائه جمهوريين وديموقراطيين. والحق ان الضجة التي قامت ولم تقعد بعد في الاعلام العربي في شأن هذا القرار تدور حول زعم مفترض مفاده أن القرار يدعو الى تقسيم العراق الى ثلاث دول: شيعية وسنية وكردية. بل إن مثيري الضجة بادروا، حتى من دون أن يطلعوا على نص القرار، الى لطم الصدور محذرين الأمة من"سايكس - بيكو جديد"يستهدف تقسيم"الوطن العربي"... لمصلحة اسرائيل طبعاً. ولو أن صحيفة عربية واحدة كلفت نفسها عناء نشر نص القرار لتبين بوضوح أنه لا يتضمن جملة واحدة تدعو الى"تقسيم"العراق، بل هو، بالعكس، يدعو الولاياتالمتحدة والمجتمع الدولي، خصوصا جيران العراق، الى دعم وحدة اراضي العراق وسيادته. ولكي لا نتحدث في الغيب ننقل في ما يلي مقطعا يشكل لبّ قرار مجلس الشيوخ. للتوضيح فإن القرار يتألف من فقرتين. الفقرة أ تتحدث عن نتائج تحقيقات الكونغرس في شأن أوضاع العراق، بينما الفقرة ب تتناول، بناء على هذه النتائج، اقتراح مجلس الشيوخ، أو ما يُعرف ب"إحساس"sense المجلس، وهو عادة غير ملزم. جاء في هذه الفقرة ما يلي: 1- على الولاياتالمتحدة ان تدعم بفاعلية تسوية سياسية بين القوى العراقية الرئيسية تقوم على أساس مواد الدستور العراقي التي تنص على اقامة نظام فيدرالي للحكم وتسمح بتشكيل مناطق فيدرالية. 2- الدعم الفعال المشار اليه في الفقرة 1 يجب ان يشمل ما يلي: أ دعوة المجتمع الدولي، بما في ذلك الدول التي لديها قوات في العراق والدول الخمس ذات العضوية الدائمة في مجلس الامن التابع للامم المتحدة والدول الاعضاء في مجلس التعاون الخليجي وجيران العراق.. الى i دعم تسوية سياسية عراقية على أساس الفيدرالية، وii الاعتراف بسيادة ووحدة أراضي العراق، وiii الايفاء بالالتزامات المتعلقة بتقديم المساعدة وشطب ديون العراق، خصوصا من قبل الدول الاعضاء في مجلس التعاون الخليجي. ب الدعوة ايضا الى ان يتعهد جيران العراق بعدم التدخل في شؤونه او العمل على زعزعة استقراره وان يوافقوا على اعتماد آليات ذات صلة للتحقق verification mechanisms. ج الدعوة الى مؤتمر للعراقيين هدفه التوصل الى اتفاق على تسوية سياسية شاملة تقوم على أساس تشكيل مناطق فيدرالية في اطار عراق موحد. 3- على الولاياتالمتحدة ان تحث حكومة العراق على الموافقة العاجلة على قانون يضمن التوزيع العادل لعائدات النفط وتنفيذه، الأمر الذي يعتبر عنصرا رئيسيا للتسوية السياسية القائمة على اساس الفيدرالية. 4- الخطوات السالفة في الفقرات 1 و2 و3 من شأنها ان تؤدي الى عراق مستقر، ليس ملاذا للارهابيين ولا تهديدا لجيرانه. انتهى الاقتباس. طبعا لا أمل في أن يزعزع هذا التوثيق، أو أي توثيق، إيمان المؤمنين بأن مؤامرة التقسيم قادمة لا محال. لكن المصيبة تكمن في مواقف عراقيين، بينهم عدد لا بأس به من قياديين وسياسيين ومسؤولين وأعضاء في مجلس النواب، استهولوا واستفظعوا قرار مجلس الشيوخ مؤكدين ان الكونغرس يريد تقسيم العراق الى ثلاث فيدراليات عرقية وطائفية، واحدة للكرد وثانية للشيعة والثالثة للسنة. لكن بما أن القرار لا يتضمن إطلاقا اي نوع من التقسيم فلا يسعنا سوى الاستنتاج بان هؤلاء المنتقدين لم يقرأوا القرار بل بنوا اتهاماتهم على ما أوحى لهم به الكتاب والمحللون في الفضائيات والصحف العربية إياها. وهل في هذا ما يثير العجب إذا علمنا علم اليقين ان بين هؤلاء نواباُ وسياسيين لم يفهموا، كي لا نقول لم يقرأوا، الدستور العراقي نفسه؟ ذلك أنهم لو فهموا دستورهم، الذي انتخبوا على أساسه بعدما تم التصويت عليه في استفتاء، لاكتشفوا أن قرار مجلس الشيوخ يستند في كل فقراته الى هذا الدستور الذي ينص في مادته الأولى على أن"جمهورية العراق دولة مستقلة ذات سيادة، نظام الحكم فيها جمهوري نيابي برلماني ديموقراطي إتحادي". وتوضح المادة 112 من الدستور ما يلي:"يتكون النظام الاتحادي في جمهورية العراق من عاصمة وأقاليم ومحافظات لا مركزية وإدارات محلية". وفي أحسن الأحوال إضطر بعض المنتقدين الى الإقرار بأن الفيدرالية قرار دستوري عراقي، لكنهم مع ذلك هاجموا قرار مجلس الشيوخ على أساس انه يعتبر تدخلا في الشأن العراقي. وهذه حجة أقل ما يقال فيها إنها تتجاهل الواقع العراقي تماما. فالكل يعلم أن العراق ما زال محكوما بقرار دولي يمنح الولاياتالمتحدة، بصفتها قائدة لقوات التحالف، دورا رئيسيا في مصير البلد وسلطات أمنية وسياسية واسعة حتى إشعار آخر ينتهي بقرار دولي جديد يحل محل القديم وهذا ما لم يحصل بعد. بعبارة أخرى، إن الجانب العراقي ملزم عمليا بالتعاون والتشاور مع الولاياتالمتحدة، بسلطتيها التنفيذية والتشريعية، في كل ما يتعلق بالمسار المستقبلي للعراق. تكفي الاشارة الى ان موقع الحكومة العراقية يمكن ان يتعزز بمجرد صدور تصريح للرئيس جورج بوش بدعمها، والعكس صحيح. وهكذا كان الأجدر بالسياسيين العراقيين المنتقدين لقرار مجلس الشيوخ التعامل معه بواقعية بدلا من التهويل والمبالغة. ولعل المفارقة تكمن في أن بين أشد المنددين ب"تدخل"الكونغرس في الشأن الداخلي جهات وشخصيات عراقية تكاد لا تتخذ موقفا وقرارا من دون أن تتشاور أولا مع السفارة الأميركية في بغداد طالبة دعمها، أو تدخلها، لمصلحة جماعتها ضد جماعة أخرى. نشير الى هذه الحقيقة لا انتقادا لهم، بل لمجرد التذكير بالأمر الواقع والتنويه به. كامران قره داغي زميل كبير، من مؤسّسي"الحياة"، عاد، بعد انقطاع طويل نسبياً، الى الكتابة لهذا الملحق الذي سبق له أن نشر فيه كثيراً من مقالاته اللافتة. فأهلاً وسهلاً.