تراجعت أخيراً المخاطر الاقتصادية المرتبطة بأزمة الرهن العقاري الأميركية مع قيام مجلس الاحتياط الفيديرالي الأميركي بتقليص الفائدة على الدولار 0.50 في المئة، غير أن أثر هذه الأزمة في الأسواق المالية العالمية سيبقى ظاهراً خلال الأشهر القادمة. فالأزمة بدأت في الولاياتالمتحدة، مع إقراض المؤسسات المالية هناك أفراداً لا يتمتعون بسجل ائتماني جيد ووفرت قروضاً إسكانية لهم تفوق قدرتهم على الدفع، سرعان ما تحولت إلى أزمة مالية تهدد معظم الأسواق العالمية. فلقد تم تحويل قروض الإسكان هذه إلى سندات مغطاة بأصول collateralized debt obligations وبيعت إلى مستثمرين مؤسسيين في أوروبا وأميركا اللاتينية وفي أنحاء أخرى من العالم ما أدى إلى تكبد هذه المؤسسات خسائر متفاوتة وانكشفت أمام المخاطر المرتبطة بالسندات. بقيت أسواق الأسهم العربية في منأى عما يحدث في الأسواق العالمية، وشهدت تقلبات شبه طبيعية نظراً إلى أن غالبية اللاعبين فيها هم مستثمرون أفراد لا وجود يذكر لهم على الساحة العالمية، إضافة إلى قلة الترابط بين أسواقنا والأسواق الدولية. أما المستثمرون من مصارف ومؤسسات وشركات عائلية استثمروا في السندات المغطاة بأصول عقارية أو في صناديق التحوط التي تأثرت في شكل مباشر بالأزمة المالية الراهنة فهؤلاء سيتعرضون لخسائر يصعب تقديرها. إن انكشاف المصارف العربية على أزمة الرهن العقاري الأميركي وأدواته المالية يعتبر محدوداً. فمعظم المصارف العربية لا تستثمر سوى القليل في مثل هذه الأدوات، أما المصارف التي لها حيازة في صناديق تحوط تستثمر في سندات مغطاة بأصول عقارية فخسارتها ستكون بقدر حيازتها مثل تلك الأصول. وبحسب استطلاع أجرته شركة التصنيف الائتماني"ستاندرد أند بورز"أخيراً فإن مجموع استثمارات مصارف المنطقة في سندات الرهن العقاري ذات التصنيف الائتماني المنخفض لا تزيد عن واحد في المئة من مجموع أصول هذه المصارف، حيث تنصب غالبية استثماراتها في أدوات ومشتقات مالية ذات التصنيف الائتماني الجيد AAA أو AA. عموماً فإن الأداء المالي الجيد للمصارف العربية خلال السنوات الأخيرة إضافة إلى قاعدتها الرأسمالية القوية وربحيتها العالية ستمكنها من امتصاص أي خسائر قد تتعرض لها جراء هذه الأزمة. ومن الآثار السلبية للأزمة تأجيل إصدار سندات دين وتسويقها أو صكوك صادرة من المنطقة أو إعادة تسعير هذه السندات بطريقة تعكس تراجع السيولة في السوق وضعف الطلب المحلي والعالمي على أدوات الاقتراض هذه. إن التقلص الذي سجل في هامش الفرق بين سعر الفائدة على السندات التي تصِّدرها الدول النامية وشركاتها، مقارنة بأسعار الفائدة على أدوات الدين التي تصِّدرها الدول المتقدمة، والذي وصل إلى أدنى مستوياته قبل الأزمة الحالية، يتوقع له أن يتسع مجدداً ليجاري ارتفاع نسبة المخاطر التي شهدتها الأسواق أخيراً. ومع أن شركات الاستثمار المباشر التي تعمل في المنطقة هي أقل اعتماداً على الاقتراض لتنفيذ عمليات الدمج والحيازة مقارنة بمثيلاتها في الدول المتقدمة، غير أن هذه الشركات لاحظت أخيراً صعوبة أو ارتفاعاً في تكاليف تمويل صفقات حيازة جديدة. فعملية تقليص الاعتماد المفرط على الاقتراض لتمويل عمليات الدمج والحيازة والتي ظهرت بوضوح على الساحة العالمية سيكون لها تأثيرها أيضاً في الأسواق المحلية. وأصبحت المصارف العربية الآن أكثر حيطة وانتقائية عند توفير التمويل المطلوب لشركات الاستثمار المباشر في وقت ضعف فيه طلب المستثمرين على أدوات الدين التي يتم إصدارها لهذا الغرض. هذا الأمر يعني أن صفقات الحيازة والدمج التي تعتمد بطريقة مفرطة على الاقتراض من مصادر محلية أو إقليمية قد تتم إعادة تسعيرها أو إلغاؤها، وسيكون التركيز أكثر على الصفقات التي يمكن تمويلها في صورة أكبر من التدفقات النقدية للشركات المستهدفة ومن القروض التجسيرية التي توفرها المصارف. وسيلجأ المزيد من صناديق الاستثمار المباشر إلى مصارف الاستثمار التي تستطيع توفير هياكل إقراض إسلامي متطورة لتمويل عمليات الحيازة هذه. إن التقلبات الحاصلة في أسواق المال العالمية سيكون لها بعض الأثر في البورصات العربية، بخاصة أسواق الأسهم التي تسمح للمحافظ العالمية الاستثمار فيها. ففي فترات الأزمات يتجه المستثمر إلى تخفيض مخاطره ويتحول من الأسواق الناشئة إلى استثمارات أكثر سيولةً وأماناً مثل السندات الحكومية. ورغم صغر حجم تدفقات محافظ الاستثمار العالمية إلى أسواقنا المحلية إلا أنها قد ساهمت أخيراً في تحديد التوجه العام للبورصات العربية. لا بد من الإشارة إلى أن الانسحاب الذي سجل أخيراً لبعض المستثمرين المؤسسيين من أسواق الأسهم والسندات الإقليمية يجب أن لا يُنظر إليه على أنه تحول هيكلي طويل الأمد. فالأداء الاقتصادي القوي لدول المنطقة، وديناميكية أسواق رأس المال فيها ستبقى عاملاً جذاباً لرؤوس الأموال المحلية والعالمية التي تبحث عن مجالات استثمار مجدية. إن أكبر المخاطر التي قد تنجم عن الأزمة المالية الحالية هو احتمال حصول تباطؤ اقتصادي عالمي. فالهبوط الذي سُجل أخيراً في أسعار العقارات السكنية في أميركا وغيرها من الأصول والذي صاحبته ضغوط إضافية على عملية التسليف سيكون له أثر سلبي في المستهلك الأميركي المثقل أصلاً بأعباء الديون، ما قد يؤدي لاحقاً إلى ظهور أزمة في قطاع التسليف من طريق بطاقات الائتمان وارتفاع في معدلات تخلف الشركات عن سداد ديونها. في الختام، يمكن التأكيد مرة أخرى أنه من غير المتوقع أن يكون للأزمة الحالية في الأسواق المالية العالمية أي تأثير يذكر وملحوظ في الأسواق المالية الإقليمية، لكن تأثيرها سيكون أكبر في حال تحولها من أزمة مالية إلى أزمة اقتصادية. * الرئيس التنفيذي، منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، "دويتشه بنك"