لم ننتظر مبادرة الأمين العام للجامعة العربية الدكتور عمرو موسى في لبنان حتى نكتشف أن مفتاح الحلّ اللبناني هو إقليمي بامتياز، وأن عبقرية أولي الأمر المحليين ستبقى عاجزة عن اجتراح حلول خلاقة طالما أن قرار الحلّ والربط موجود خارج حدود البلد الصغير. ولا ريب أن المراقب يرى أن المقاييس البيتية لا تحتمل أجندات ضخمة كتلك التي تريد لها موقعا في مساحة لبنان المحدودة في عالم السياسة والاقتصاد والديموغرافيا والعسكر والعجينة الاجتماعية. فالتركيبة اللبنانية ضعيفة هجينة لا تحتمل تعقيدات المنطقة حين تنعطف على التعقيد البنيوي للكينونة اللبنانية. كلّ ذلك أضحى معروفا ولا طائل من اجتراره في السعي إلى تفسير المعضلة وتبرير جسارتها. بيد أن الثابت أيضا أن الحسابات الإقليمية تجد دائما مساحاتها في لبنان. والأمر عائد بالطبع إلى شهية اللبنانيين الى اللعب بحسابات الكبار، وإلى حاجة السوق المحلي إلى ترويج بضاعة مستوردة لطالما أُنتجت بمعايير لا تتسق مع شروط السوق اللبناني. والسرّ في ذلك يكمن في طبيعة التركيبة اللبنانية التي تحتاج إلى جرعات إقليمية ودولية بغية تحري توازن الوجود، سواء أكانت تلك الجرعات إسرائيلية، أميركية، فرنسية، غربية، أم كانت سورية، إيرانية، سعودية، مصرية.. الخ. فلبنان لا يستطيع أن يملك قراره بالأسلوب الذي يتحدث عنه قادته، بل أن هامش الداخل كان ويبقى محدودا وفق ارتفاع وانخفاض سطوة الخارج على الداخل. وعلى هذا يختار اللبنانيون اصطفافاتهم السياسية وفق هذه الأجندة الخارجية. ويصف اللبنانيون هذه الاصطفافات بالوطنية أو العروبية، أو العميلة....إلخ، وفق منظومة تصنيفات محلية تتصل بالزمان، وترتهن لعامل الظرف واخواته. وعلى الرغم من التجربة الديموقراطية العريقة لهذا البلد، فإن المجتمع لا يتحرك وفق مؤسسات مكتسبة، بل وفق مجموعات إثنية طائفية عشائرية تسعى في العمل السياسي اليومي إلى تحسين شروط الشراكة. بكلمة أخرى فإن لبّ المشكلة في لبنان هي وجهةُ نظرٍ حول شروط الشراكة. هكذا جرى تفسير الحرب الأهلية في البلاد. وهكذا فُهم من سيناريوهات الخروج من هذه الحرب من خلال اتفاق الطائف. فبالنهاية تحتدم الأزمات حين تصاب التسوية اللبنانية بعيب يؤدي إلى اختلالها. صحيح ان فريقا كبيرا من اللبنانيين يعتبر أن اتفاق الطائف أسس للتوازن اللبناني وعالج مكامن علل نظام الاستقلال، غير أن شريحة أخرى من اللبنانيين يرون في الطائف صفقة بين فرقاء أُبرمت دون الأخذ بالاعتبار حصة فرقاء آخرين. وليس مهماً هذه الأيام مناقشة عدالة هذه الرؤية أو صوابية الرأي القائل إن جوراً يصيب طائفة لبنانية بسبب الطائف، فالمهم أن الأمر هكذا، وعلى أولي الأمر في لبنان قراءة هذه الحقائق الجديدة، إذا ما أريد لحال اليوم من قراءة صالحة، وإذا ما أريد لمعضلة اليوم أن لا تتحوّل إلى حرب أهلية جديدة. تتحرك الطائفة الشيعية في لبنان معبّرة عن حالة الإختلال الآنفة الذكر. وبغض النظر عن طبيعة وأسباب هذا التحرك، فإن المؤشرات الحقيقة التي تشي بها بعض أدبيات هذا التحرك تصب في طاحونة المشتغلين على تسوية أُخرى تأخذ في الإعتبار تطور الحالة الشيعية اللبنانية في العقود الغابرة. ففيما تبرع حناجر قادة الأكثرية على اتهام"حزب الله"و"أمل"بالارتهان إلى إيران، لا يجد قادة هذا المعسكر حرجا في ذلك، بل يفخرون به ويجاهرون بإعلانه. ولا يقتصر الأمر على الشيعة في لبنان، بل أن ذلك ينسحب على الشيعة في العالم عامة والشيعة العرب خاصة، الذين وجدوا في إيران مركزا قائدا ل"قضيتهم"، ورافعة محورية لطموحاتهم. وقد ظهر ذلك جليا إبان الساعات التي تلت الكلام عن"الهلال الشيعي"، أو التصريحات المشككة بولاء الشيعة العرب لبلدانهم...الخ. فقد جاءت ردود الفعل الصادرة عن المراكز الشيعية العربية منددة مستنكرة بنظرية المؤامرة التي تقف وراء تسريبات من هذا النوع من جهة، لكنها أكدت من جهة أخرى مشروعية الارتباط العقائدي والثقافي بإيران، من دون أن يكون ذلك مشروطا بولاء لطهران وساساتها. ولا ريب أن إيران تقف وراء الحركة الشيعية في العالم وتهيمن على دينامياتها. وهذا كلام تفسيري وصفي يعرض لواقع الحال الذي ترفض مراجع وهيئات وشخصيات عربية الإقرار به كقانون يجب التصرف وفق مواصفاته. وعليه فمن واجب أصحاب القرار أخذ الأمر بالحسبان كواقعة موضوعية لا كجرم مشهود وشبهة مدانة. يكتفي الخطاب الأكثري في لبنان بالتدليل على زواريب الارتباط المفترض مع إيران. ويلّح الخطباء على يقينهم من هذا الارتباط ومن هذا الواقعة. وفي حين يقع المعارضون، لا سيما الكتلة الشيعية، بهذا الفخ، فيمعنون بسرد الحجج التي تنفي ارتباط حركة البيت بجلبة الجيران، فإن حيوية الحركة الشيعية المعترضة تتأسس وفق ما يعلنه قادة"حزب الله"على دعم عسكري ولوجيستي ومالي وسياسي إيراني. أي أن الحركة الشيعية في لبنان لا تتنصل مما يريده الخطاب الأكثري أن يكون تهمة مشبوهة. وعليه فإن منطق الأكثرية في لبنان لا ينطلق من أن الأمر حقيقة يجب التعامل معها، بل شبهة يجب إزالة اللبس فيها. ومع الاحترام الشديد لحوافز القوى اللبنانية غير الشيعية المتحالفة مع"أمل"و"حزب الله"في حركة الاعتراض الراهنة، فإن قرار الحلّ والربطّ معقود للطائفة الشيعية، وأن أصول التسوية تجري حكما مع ولمصلحة هذه الطائفة. صحيح أن الفرقاء كافة يكررون بمللٍ تمسكهم بالطائف وعدم نيتهم الإخلال به، غير أن المتأفف من حصص الطوائف يعبر عن شك في إمكانية هذا الاتفاق الطائف على تأمين السلم الأهلي راهنا ومستقبلا، وبالتالي على صلاحية الطائف في تطمين الشيعة في لبنان بارتباطهم المنطقي مع إيران. تنطلق مواقف الأكثرية في لبنان من أرضية مشروعة تنهل صداها من تعابير وقيم بديهية مشروعة. فالنظام الديموقراطي المنعقد على المؤسسات الدستورية والمتصل بمواعيد واستحقاقات دستورية، لا ينبغي أن يكون ضحية لمزاجيات القوى السياسية وتبدل أطباعها على نحو يجعل من الواقع الديموقراطي تفصيلا عرضيا لا ناموسا أصيلا. بيد أن الانطلاق فقط من القيم والثوابت قد لا يتفق مع طبيعة هذا البلد وحراكه الدائم. صحيح أننا لا ندعي في هذه العجالة تقديم البدائل والتبرع بالمخارج، لكن ما نريد سوقه هو دعوة إلى تغيير المنهج الذي تتأسس عليه حركة الأكثرية، كي تصبح قادرة على استيعاب المعطيات لا إدانتها، وعلى هضم الوقائع لا إنكارها، وعلى فهم الولاءات لا إغفالها. وتلك عملية لا تدعو إلى تنازل أو تراجع بل إلى تصويب عملية إتخاذ القرار بما يضمن لتلك الأكثرية التحليق فوق المشكلات لا الغرق في أحشائها. نعم يجب على أولي الأمر في لبنان الإعتراف راهنا بقوة إيران الإقليمية وتنامي نفوذها في المنطقة عموما وداخل صفوف الشيعة العرب خصوصا. نعم يجب على أولي الأمر في لبنان الإنتباه إلى أن الطائفة الشيعية في لبنان متوجسة يعتريها قلق من هذا الإندفاع اللبناني نحو المحلية والتلبنن الطارئ برعاية غربية. وهذا التوجس عائد حكما إلى هذه العلاقة الحميمية والوجودية التي تربطهم بطهران. نعم يجب على أولي الأمر في لبنان الإلتفات إلى ريبة الطائفة الشيعية من محكمة دولية تأتي من دون رقابتهم وقد تأتي على حلفاء لهم ولإيران، لا سيما إذا ما استخدمت هذه المحكمة لتصفية حسابات دولية سياسية قد لا تتصل بظروف الجريمة وحيثياتها. إن عدم الإعتراف بريبة الطائفة الشيعية، وعدم الإقرار بشعور الشيعة بالغبن الداخلي سواء أكان هذا الشعور محقا أم لا، وعدم قبول وفهم إرتباط الشيعة بإيران، يعني أن لبنان وليس العراق قد تحوّل إلى ساحة تكسير رؤوس ونفوس ضد هذه القوة الإقليمية الإيرانية من خلال المواجهة مع الشيعة في لبنان. وإذا كان الغرب قد يستنفر وسائل وقوى لكسر هذه الحقيقة، فإن إيران لن توفر جهدا وهي سباقة في هذا المضمار من خلال وجودها العسكري والمالي والعقائدي في لبنان لتدعيم هذه الحقيقة وتأكيدها. صحيح ان عربا قد يجدون الفرصة مواتية لضبط الحركة الإيرانية في المنطقة من خلال"معركة لبنان"، إلا أن نتائج تلك المعركة قد لا تترك مكانا لبلد إسمه لبنان. محصلة القول إن رياحا إقليمية عاتية تعصف في الوقت الراهن. وأن لبنان عليه تأجيل حسم خيارات استراتيجية تتعلق بالوظيفة وشكل الكيان. وربما في دعوة عمرو موسى اللبنانيين إلى الخروج بحلّ يُدعم عربيا لغياب الحلّ العربي الذي يفرض على اللبنانيين تسليم من الأمين العام لجامعة العرب بأن على لبنان أن ينحني حتى تمر العاصفة. وما هو المطلوب حاليا ليس قتل الناطور بل أكل العنب وقطف الموسم لعل في ذلك حماية للحقل وحماية لمواسم قطاف أخرى. * صحافي وكاتب لبناني