لطالما أمعن الخطاب العربي الرسمي والمعارض في عدم الاعتراف بوجود مشكلة طائفية أو مذهبية في تاريخ العرب والمسلمين. ولطالما أُريد إغفال وجود"المسألة الشيعية"تحت شعار الوحدة الإسلامية، وتحت مقولة عدم وجود خلاف بين الشيعة والسُنّة. وحتى حين انفجر النزاع مذهبياً في العراق، جاء من يقول إن الظاهرة طارئة على العراق وعلى تاريخه، وإن المعضلة ناتجة ومركبة من قبل الاحتلال. وبالإمكان الاستمرار في اغفال العامل المذهبي لكن ذلك لن ينفي وجود تلك المشكلة ولن يحلّ حساسيات التعايش الشيعي السني في العالم الإسلامي عامة والعربي خاصة. لن نخوض كثيراً في أصول الانشقاق الإسلامي بين سنة وشيعة، وإذ تأسست علاقة السُنّة والشيعة في أصول الحكم على قاعدة الأقلية والأغلبية، فإن ذلك شكل آليات التنافر والتنابذ والتباعد بين موالاة ومعارضة، مع ما يرافق ذلك من وجوه الاضطهاد والتعسف والقمع الذي تمليه شروط الحكم، ومع ما يتواكب من محاباة وهضم واستيعاب وهي أمور تمليها شروط الحكم أيضاً. غاب إذن العقد الاجتماعي بمعناه الحديث في علاقة السُنّة بالشيعة. فالخلاف سياسي لكنه تأسس أيضاً على قواعد فقهية مختلفة وعلى أساليب تنظيمية داخلية متباينة. لكن التباين والاختلاف مسّ شكل ومظاهر الدين والتدين، وقلما مسّ جوهر الإسلام المستند على الكتاب والسُنّة. والخلاف السني الشيعي شهد في التاريخ فصولاً دموية لا يمكن إغفالها، وهي تندرج كلاسيكيا في سلوك الحاكم وثقافة الحكم كما في سلوك المعارض وثقافة المعارضة، كما تعتمد تلك السلوكيات على ثوابت فقهية تتمحور حولها تفسيرات الفرقاء حول الحكم الصالح والشرعي وفق شريعة الدين الحنيف. لقد تحول التباين السُنّي الشيعي إلى تفصيل هامشي حين بدأت شعوب المنطقة نضالها الاستقلالي منذ بدايات القرن الماضي، حتى كادت هذه التباينات أن تغيب نهائيا في عهود التحرر من الاستعمار ودخول الحقبات الاستقلالية والخوض في بناء الدولة الوطنية الحديثة. والتاريخ الحديث شاهد على مواقف السُنّة والشيعة إما معاً أو في مواقع زمنية مختلفة تقف ضد الاستعمار وتناضل باتجاه خروج الأجنبي لمصلحة دولة الاستقلال. وفي تحري بناء الدولة الحديثة سعى السُنّة والشيعة كما باقي مكونات المجتمع العربي الحديث إلى الاهتداء إلى عجينة الدولة - الأمة متأثرين بالتجارب الغربية في هذا المضمار، كما عملوا على الدعوة الى دولة عادلة تُشاد على أطلال الدولة المحتلة او الدولة المتعاملة. فنشط اليمين كما اليسار كمحددات لحركة السياسة، وكنموذج جديد للاصطفاف السياسي الداخلي بعيداً عن الاصطفاف الطائفي والمذهبي التقليدي. كما تهمشت سلطة المؤسسة الدينية لصالح مؤسسات أكثر مدنية تأثرا بالتطور الدولي بمعسكريه الشيوعي والرأسمالي بعد الحرب العالمية الثانية. ومقابل هذا السياق برز تضامن ضمني مضمر ضد الدولة المدنية، يحركه قلق من استبعاد وتهميش للإسلام كمحدد وحيد لمصائر العباد. خرجت دساتير عربية حاولت استيعاب الكتل الشعبية الاجتماعية وسوقها نحو الحداثة على أنقاض العثمانية أولاً والأنكلو - فرنسية تالياً. فمن الإسلام كمصدر وحيد للتشريع، إلى الإسلام أحد مصادر التشريع، وصولاً الى تشريعات تبتعد بنسبٍ متفاوتة عن الشريعة في السلوك وقوانين العائلة وأصول الملكية والنظم المالية، انتهاء بتحريم الحجاب في دول أخرى. في هذه الظروف انكفأ الدين عن منابر الحكم، وتحول في حقبات لاحقة إلى مادة اعتراض وتمرد ضد دول الاستقلال الحديثة. وعليه أضحت الخلافات السنية الشيعية مادة نقاش ثقافي تاريخي لا مادة نزاع وصدام. واستوعبت الأحزاب العربية بيمينها ويسارها جمهور الشيعة والسُنّة كما جمهور المسيحيين والدروز وبقية الطوائف. على أن خللاً ما أعاد استعارة الحساسيات المذهبية الإسلامية. ويكمن هذا الخلل في عجز الدولة العربية الحديثة عن إرساء عقدٍ اجتماعي يتناسب مع ظروف وشروط المنطقة. فشلت النماذج المستوردة في إحلال منطق المواطنة والمساواة، كما أخفق النظام العربي في تحقيق هدف تحرير فلسطين، وسقطت التجارب المقاومة في هذا الصدد والتي اعتمدت معايير يسارية وشيوعية في تعبيد استراتيجيات تلك المقاومة. انهارت الدولة العربية الحديثة منذ فشل المشروع الناصري وتراجع التجربة البورقيبية في تونس واندثار المعسكر الشيوعي في أوائل التسعينات وزوال الوهم العلماني حتى عن دساتير الأحزاب والكتل المعارضة. على هذه القاعدة ووفق تلك الوقائع أتت الثورة الإسلامية في إيران لتزيل نهائياً غبار الوهم العلماني في المنطقة، ولتؤسس لعودة الخطاب الديني الإسلامي إلى متون الحكم وحواشي المعارضة. وانطلاقاً من هذا الاستحقاق جرى استنهاض الجمهور الإسلامي عامة والشيعي خاصة لتشكيل حالة تصدير للواقع السياسي الجديد في إيران. بالمقابل راجت لدى الشيعة العرب حركة الترابط مع الحدث الإيراني من أجل الاستقواء بميزان القوى الجديد بغية تحسين شروط العيش والشراكة في الدول التي ينتمون إليها. فنشطت على نحو لافت حركات سياسية شيعية في مختلف دول المنطقة. واعتمدت هذه التشكيلات على الرموز الإيرانية مرجعاً ومسلكاً وهوية. فيما ارتاب النظام العربي السُنّي من نشاط تلك التشكيلات من جهة، ومن النشاط الإسلامي السُنّي المدعوم من إيران من جهة ثانية. وهذا ما فسّر حالة العداء العربي - الإيراني، والتي تجلّت بدعم كامل للعراق في حربه ضد إيران اولاً، وبتوترات ديبلوماسية ذهبت إلى حد قطع العلاقات الديبلوماسية بين أكثر من دولة عربية وإيران. وقائع الأمس تفسر واقع اليوم. النظام العربي يرتاب بشكل رسمي وعبر تصريحات علنية واضحة من الحركة السياسية الشيعية في المنطقة. وما نسميه ارتياباً يتحول إلى صدامٍ دموي بأشكال مختلفة سياسية وميدانية في الساحة العراقية، فيما التوتر يسود العلاقة بين الطائفتين في لبنان. وفي حالة التوتر الراهنة لا تغيب قوى الخارج عن محركات الفعل، لكن الأمر يعتمد من دون مواربة على خلل محلي لا طائل من إنكاره أو التبرؤ من وجوده. الخلاف السني - الشيعي الراهن يتخصب من حالة خوف مصيري ووجودي ينتاب جمهور الطائفتين. خوف شيعي من هيمنة سنية في العراق يعتبرونها مسؤولة عن نكبتهم وخوف شيعي في لبنان من منظومة حكم تهمش من وزنهم ولا تأخذ في الاعتبار التبدل في موازين القوى داخلياً وإقليمياً. النظام العربي السُنّي يخاف من انهيار نفوذه السياسي التقليدي مقابل تصاعد قوة إيران الإقليمية، وبالتالي تصاعد مواليها في المنطقة. يخاف السُنّة من اختراقات شيعية قوية ومستقوية داخل نسيج الاجتماع والحكم يهدد وحدة الجغرافيا والديموغرافيا. باختصار، وأمام انهيار المشروع العربي أو غيابه، وصعود النجم الإيراني، لا يقبل النظام العربي الدخول في الفلك الإيراني الشيعي مفضلاً الالتحاق والاستقواء بأفلاك دولية أخرى. لن يستطيع مؤتمر مكة الأخير القفز من فوق واقع الخوف والريبة أو تبسيط المعضلة واختصارها ببعد أخلاقي تتم معالجته بفتاوى دينية. وما من أفق يشي بأن الخلاف السُنّي - الشيعي آيل إلى زوال. ففي العراق تنزف دماء بسبب ذلك، فيما سيناريوهات التقسيم تستريح على أرضيات مذهبية خالصة. ولا يبدو أن انسحاب الأجانب سيساعد على اطفاء الفتنة، بل سيسعرها على ما يتخوف الكثير من المراقبين. على أن توصل فرقاء العراق إلى صيغة للدولة والحكم ترضي مقومات المجتمع كافة وتزيل عامل الخوف الوجودي، هو شرط أولي لإزالة اللبس في علاقة السُنّة بالشيعة في العالم العربي. ينعطف ذلك على إعادة بناء علاقة النظام العربي بإيران والذي تسيره تقليديا تراكمات تاريخية لا تمت بصلة إلى شروط الوضع الراهن. فمن شأن ذلك تخفيف حالة الارتياب المتبادل لصالح تصاعد في الخط البياني لعامل الثقة بين الكيانين. الخلاف السني - الشيعي في هذه الأيام يجد منابع له في قلق النظام الإيراني على وجوده. فأكثر من دراسة تحدثت عن قلق إيراني من سعي أميركا الدائم لإطاحة النظام في طهران. وأكدت تقارير أخرى أن تراجع إيران عن برنامجها النووي مرتبط بتعهد الولاياتالمتحدة وقف أعمالها المناهضة للنظام الإيراني، ووقف كل البرامج الأميركية التي تسعى لإطاحة هذا النظام. وضمن منظومة الخوف والقلق، تتحرك طهران بأجندة أمنية وعسكرية لتغذية امتداداتها داخل الساحة العربية، عبر المال والسلاح واليدبلوماسية والسياسة، على نحو يجعل من الشيعة مادة توجّس من قبل السُنّة، سواء كان هذا التوجّس وهماً أو كان ينطلق من أجندة سلطة وحكم. * كاتب وصحافي لبناني