من المفيد من حين لآخر، أن يعود المرء خطوة الى الوراء ليلقي نظرة على الاطار العام للصراع الجاري في فلسطين، ليس فقط لأن الانشغال بالتفاصيل وتلاحق الأحداث اليومية قد يجعل الأشجار تحجب الغابة عن الأنظار، بل لأن ملامح الاطار العام نفسها تتغير من فترة لأخرى. ومن خلال النظرة العامة يتضح أن الاطار العام للصراع يتمحور اليوم بين نضال الشعب الفلسطيني لإنهاء الاحتلال وانتزاع دولة مستقلة كاملة السيادة على جميع الأراضي المحتلة عام 67 بما فيها القدس، والاعتراف بحقوق اللاجئين الفلسطينيين، وبين محاولات اسرائيل تكريس نظام الفصل العنصري والهيمنة عبر تمرير مشروع دولة بحدود مؤقتة من دون القدس والأغوار ومعظم مناطق الاستيطان ومن دون حدود وسيادة حقيقية. وما قرار الحكومة الأخير بناء مستوطنة جديدة في الأغوار إلا تأكيد صارخ على ذلك. وبكلمات أخرى، فإن الخلاف يتمحور حول حل شامل ونهائي للصراع وبين حل جزئي وانتقالي آخر، أي أوسلو جديد. فاتفاق انتقالي جديد طويل الأمد هو وسيلة اسرائيل ومن يدعمها لتجريع الفلسطينيين حلا غير مقبول، يشمل التنازل عن أجزاء واسعة من الضفة الغربية بما فيها القدس وعن قضية اللاجئين الفلسطينيين، على أمل أن يصبح الحل الانتقالي دائماً، وتصبح الوقائع على الأرض أقوى من الآمال والطموحات. غير أن هناك هدفا استراتيجيا ثانيا لمحاولة تمرير حل انتقالي جديد، وهو تكريس طابع السلطة الفلسطينية كسلطة محدودة الصلاحيات وعديمة السيادة، تعمل كوكيل أمني لاسرائيل وأطراف دولية عديدة أخرى، وفي اطار الهيمنة الاسرائيلية اقتصاديا وسياسيا وأمنيا. أما الهدف الثالث لفكرة الحل الانتقالي الجديد - دولة ذات حدود موقتة - فهو تشتيت الفرص السياسية التي قد تكون متاحة أمام الشعب الفلسطيني بسبب أزمة السياسة الأميركية في العراق وأفغانستان والشرق الأوسط عموما، وما اقترحه تقرير بيكر - هاميلتون بضرورة ايجاد حل للقضية الفلسطينية، وبسبب تعاظم الضيق العالمي من فداحة الظلم الذي يعيشه الشعب الفلسطيني، وهو ظلم فضحه جدار الفصل العنصري وممارسات الحواجز والاذلال والخنق الاقتصادي الى حد جعل الرئيس الأميركي الأسبق كارتر ينطق بما لم يكن متخيلا"ان نظام الفصل العنصري في المناطق المحتلة أسوأ مما كان قائما في أحلك أيام العنصرية في جنوب افريقيا". وهي فرص عبرت عن نفسها أخيراً في المبادرة الاسبانية - الفرنسية - الايطالية الداعية الى عقد مؤتمر دولي لايجاد حل شامل للصراع وبما يشمل جميع دول المنطقة كبديل للحلول الجزئية والانتقالية بعد تجربة أوسلو المضرة والمؤلمة. ان فكرة الدولة المؤقتة - عبر مباحثات فلسطينية - اسرائيلية منفردة، هي سبيل اسرائيل لتخفيف الضغوط الدولية وتعطيل الجهود لايجاد سلام حقيقي وعادل في المنطقة ولمنع أطراف في الادارة الأميركية من التحول نحو هذا الاتجاه بتأثير من عملية المراجعة العميقة لسياسة الأخيرة في المنطقة. وكما جرى في أوسلو سابقا، فليس أفضل من استخدام الفلسطينيين أنفسهم ذريعة للهروب من تحديات حل شامل وكامل للصراع ومن الضغوطات المطالبة بانهاء الاحتلال وهو على أعتاب عامه الأربعين. ومن المظاهر الخطرة لما يجري، محاولة اسرائيل بمعونة أطراف عديدة تصدير الصراع الخارجي الى الساحة الداخلية الفلسطينية عبر توتير الأجواء وجر الفلسطينيين الى شفير الحرب الأهلية والصدام الدموي. ويرتدي تصدير الصراع الى الساحة الداخلية ثلاثة أشكال: 1- تشويه صورة القضية الفلسطينية والقوى الفلسطينية بجعلها ساحة لصراع اقليمي، واسناد طرف ضد طرف في محاولة لشق الفلسطينيين الى جزءين أحدهما مع محور الشر المزعوم وجزء آخر فيما يسمى محور اعتدال الى جانب اسرائيل. 2- توتير الصراع بين"فتح"و"حماس"وتركيزه كأنه صراع على السلطة المحدودة الصلاحيات، وهي سلطة ما زالت تحت الاحتلال. ويساعد على هذا الأمر تركيز النقاش على موضوع الحكومة وطابعها وتركيبتها وشروط قبولها من اسرائيل وأطراف دولية أخرى، بدل النظر لفكرة حكومة الوحدة الوطنية كجزء من عملية بناء قيادة وطنية موحدة لادارة الصراع وكوسيلة لكسر الحصار بدل الخضوع لشروطه. 3- محاولة دفع حركتي"فتح"و"حماس"الى التنافس عبر سماسرة دوليين، محترفين وهواة، لا أول لهم ولا آخر، على الحلول الجزئية والانتقالية بحيث يتحول الخلاف من خلاف مبدئي على معالم الحل الشامل مقابل الحلول الجزئية، الى خلاف اداري مصلحي وفصائلي على من يكون طرفا في صفقة جزئية وانتقالية. ومن هنا كانت أهمية اعلان موقف مبدئي من كل الأطراف يرفض الدخول في أي حلول جزئية أو انتقالية، ويرفض فكرة الدولة بحدود مؤقتة جملة وتفصيلا. وفي المحصلة، فإن التحدي الأكبر الذي يواجهنا كقوى فلسطينية، هو كيف نوحد رؤيتنا واستراتيجيتنا وادارتنا للصراع، وكيف نحقق قيادة موحدة مفقودة منذ ثلاثة عقود على الأقل. فإما أن تتحول ادارة الصراع الى موضوع تنافس داخلي يضعفنا أو نتوحد في ادارة الصراع بما يحقق قوتنا. وبكلمات أخرى، إما أن تكون التعددية السياسية مصدر ضعف بتسعير الصراع الداخلي أو أن تكون مصدر قوة بتوحيد الطاقات وتصليب الموقف السياسي الفلسطيني واعلاء سقف الموقف الفلسطيني المشترك بما يصون ويحمي الأهداف الوطنية للشعب الفلسطيني. اننا بحاجة الى حكومة وحدة وطنية بأسرع وقت، ولكننا بحاجة أكبر لاطار فلسطيني جامع وقيادة موحدة قادرة على تنظيم وتفعيل وتنسيق مساهمة الأجزاء الثلاثة الأساسية للشعب الفلسطيني، أهلنا في الشتات والخارج، والفلسطينيون المقيمون في الأراضي المحتلة الضفة والقطاع والقدس وأهلنا المقيمون في الداخل والذين يلعبون دوراً مهماً في الصراع لمقاومة الطابع العنصري لاسرائيل، بعد أن أصبحوا يمثلون 22 في المئة من سكان اسرائيل. ورغم ما تشير اليه استطلاعات الرأي من وجود أغلبية فلسطينية واسرائيلية تؤيد حلا شاملا، فإن ما يسمى بمعسكر السلام الاسرائيلي قد تبخر أو اختفى تحت رداء المشاريع والحلول الجزئية والانتقالية التي تجنب اسرائيل مواجهة الخيار الحتمي، وهو أنها إما أن تنهي احتلالها بالكامل للأراضي المحتلة وتقبل بقيام دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة وبالتالي ترسي سلاماً شاملاً أو تواجه الواقع الذي تقوم بانشائه - رغم أنفها - بتكون دولة ثنائية القومية ذات طابع عنصري مشابه لنظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا، وهو طابع لن يصمد على المدى البعيد أمام النضال الوطني في الأراضي المحتلة والنضال الديموقراطي الفلسطيني داخل اسرائيل نفسها، اذ سيتوحد النضال في نهاية المطاف ضد الاضطهاد القومي العنصري بكل أشكاله. لقد لدغنا من قبل من جحر أوسلو ومن جحر الاتفاقيات الجزئية والانتقالية، فهل يتعظ الجميع من التجربة ونطبق الحديث الشريف"لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين". * عضو المجلس التشريعي الفلسطيني.