منذ إقدام أحد اخوة صدام حسين على قتل نجل الشيخ خميّس، زعيم عشيرة "عرب العبيد" مطلع السبعينات، وطابور المطالبين بالثأر يزداد امتداداً. ولما أعرب والد القتيل عن رفضه مبدأ التراضي، نصحه نائب الرئيس العراقي في حينه بالتراجع عن عناده لأن آلاف الطامعين في اغتياله يقفون في صفوف الانتظار. كان ذلك قبل التحاق شيعة إيران بطابور المطالبين بالثأر عقب اندلاع الحرب التي شنها صدام ضد نظام الخميني صباح 22 أيلول سبتمبر 1980. وفي سنة 1983 تعرض موكب صدام حسين لاطلاق نار في قرية الدجيل الشيعية، الأمر الذي دفعه الى إعلان قصاص جماعي أودى بحياة 143 شخصاً. وكما عوقب عدد كبير من زعماء الشيعة بسبب تعاطفهم مع إيران، كذلك عانى أكراد العراق من حملات الانتقام كان أبرزها عملية حلبجة حيث اختنق خمسة آلاف طفل وامرأة بالغازات السامة. ويؤكد زعماء الأكراد في أحاديثهم المكررة، أن عمليات الإبادة التي مارسها نظام صدام في كردستان، أودت بحياة 180 ألف مواطن وهدمت أربعة آلاف قرية. في حين اعترف علي حسن المجيد بمئة ألف قتيل فقط أثناء رده على بيانات مركز"الأنفال"في دهوك. واللافت في هذا السياق، أن حكومة نوري المالكي اكتفت بإدانة صدام حسين عن مقتل 143 مواطناً شيعياً في قرية الدجيل، علماً بأن الرأي العام كان ينتظر استئناف المحاكمات حول مجزرة"الأنفال"وقمع تمرد الجنوب وغزو الكويت. وعلقت الصحف العربية على قرار استعجال تنفيذ حكم الإعدام قبل الاستماع إلى شهادة صدام في أهم نزاعاته ضد إيران والأكراد، بأن واشنطن تعمدت تجاهل هذه المسائل الحساسة خوفاً من الكشف عن دورها الخفي. ويقول أنصار صدام إنه كان ينتظر الفرصة للادلاء بشهادته حول الدعم العسكري الذي وفرته له إدارة جورج بوش الأب عقب ارسالها دونالد رامسفيلد وروبرت غيتس إلى بغداد سنة 1984. بعد تصديق محكمة التمييز قرار الإعدام الصادر في حقه بسبب مسؤوليته عن مقتل 143 شيعياً من بلدة الدجيل، وجه صدام حسين الى الشعب العراقي رسالة وداعية، دعا فيها إلى محاربة الغزاة الأجانب والفرس. وخصّ بتحريضه"الغرباء"من حاملي الجنسية العراقية كأنه بذلك يشير إلى آية الله علي السيستاني، والى زعماء حزب"الدعوة"ممن فروا في عهده إلى إيران وسورية مثل إبراهيم الجعفري ونوري المالكي وعبدالكريم العنزي وسامي العسكري وخضيّر الخزاعي وموفق الربيعي... وآخرين. ومع أنه اشتهر بين رفاقه البعثيين بنزعته العلمانية، إلا أنه ارتدى ثوب التدين بعد هزيمته في الكويت. ثم ازداد تعلقه بالقرآن الكريم الذي حمله معه من السجن وقاعة المحكمة إلى منصة الإعدام. في أول تعليق على توقيت تنفيذ حكم الإعدام، أعلن رئيس المحكمة السابق رزكار محمد أمين، أن تنفيذ الحكم في أول أيام العيد كان غير قانوني ومخالفاً للتقاليد الإسلامية. ثم اتسعت ردود الفعل الغاضبة بعدما تبين أن المقنعين كانوا من جماعة مقتدى الصدر بدليل أن عملية الشنق صاحبتها هتافات: مقتدى... مقتدى... مقتدى. وهكذا ظهرت العقوبة كعملية انتقام لوالد مقتدى آية الله محمد الصدر الذي اغتالته جماعة صدام سنة 1999. واستغلت الإدارة الأميركية هذه الحادثة لتعلن استهجانها لارتكاب حكومة المالكي خطأ الاخلال بصدقية العدالة في العهد الجديد. ولما بلغت الانتقادات حداً يصعب السكوت عنه، تقدم الرئيس جلال طالباني بحجة واهية خلاصتها أن قرار استعجال التنفيذ فجر عيد الأضحى، اتخذ بدافع الحرص على الاجراءات الأمنية. وكان بهذا الايحاء يذكّر بأن التأجيل الذي طلبته واشنطن قد يعطي أنصار صدام الفرصة لاقتحام المعتقل بهدف انقاذه. كما يعطي القوات الأميركية المجال لتهريبه الى اليمن أو الأردن، كما حصل مع نجل وطبان السبعاوي أو وزير الكهرباء السابق أيمن السامرائي الذي هرّب من السجن إلى الأردن، وهو متهم بعملية اختلاس ضخمة جرت اثناء فترة حكومة اياد علاوي. يقول المراقبون في بغداد إن قانون محكمة الجنايات العليا لا يعطي رئيس الجمهورية صلاحية تخفيف الحكم أو الاعفاء عن المتهمين بجرائم ضد الإنسانية. كما أن مجلس الرئاسة لا يحق له تأجيل التنفيذ. ولكن جلال طالباني، المعروف بدهائه وحنكته، استبق الأمور، وأعلن ممانعته لحكم الإعدام من الناحية المبدئية. أي أنه عزل موقف الأكراد عن موقف الشيعة، علماً بأن ضحايا أبناء كردستان في عهد البعثيين فاق كل ضحايا الطوائف الأخرى. ويعود سبب حياد طالباني إلى اقتناعه بعدم تحميل مواطني الاقليم أي مسؤولية تاريخية قد تؤدي إلى تقسيم العراق، خصوصاً أن تركيا والدول العربية كانت دائماً تتهم الأكراد بالعمل على انجاح مشروع التقسيم من أجل اقامة دولة كردية مستقلة. ويبدو أن طالباني لاحظ مخاطر تحقيق السيناريو المخيف الذي يدفع الأزمة باتجاه حرب شيعية - سنية تعود الى 14 قرناً. من هنا تظهر الحرب المتوقعة كحل نهائي للأكراد الذين سيجدون بواسطتها مخرجاً شرعياً للانفصال، على اعتبار أنه من الصعب الاتحاد مع فريقين متنازعين. بعد تنفيذ حكم الإعدام ألقى رئيس الحكومة نوري المالكي خطاباً تحدث فيه عن بداية مرحلة جديدة تؤسس لمصالحة وطنية عامة. وقوبل خطابه بالتشكيك من قبل السنّة الذين اعتدوا على جوامع الشيعة، الأمر الذي فرض على المرجع الديني علي السيستاني، تبرير توقيت الإعدام. وكانت هذه المرة الثانية التي يتدخل فيها السيستاني لتهدئة الشارع الغاضب. ففي شباط فبراير الماضي فجرّ مجهول القبة الذهبية لمرقد الإمامين علي الهادي وحسن العسكري، وهما من أئمة الشيعة الاثني عشرية. واعتبر شيعة سامراء ان الحادث يستهدف مقدساتهم وهويتهم على اساس أن هذه المدينة تعد ثالث عتبة شيعية في العراق بعد كربلاء والنجف. وكان من الطبيعي أن ترفع تلك الحادثة من شأن الزعيم مقتدى الصدر، الذي أعلن عن تأسيس ميليشيا اطلق عليها اسم"جيش المهدي"، وباشر هجومه بانتقاد الحكومة لأنها صنيعة السفير الأميركي زلماي خليل زاد، الذي هدد قبل ذلك بوقف الدعم عن الحكومة إذا ما هي ضمت الى صفوفها أي زعيم ميليشياوي. ومع أن السفير الأميركي كان يقصد وزير الداخلية بيان جبر الذي شكّل فرقة إعدام، إلا أن كل زعماء الفرق المسلحة اعتبروا أنفسهم معنيين بملاحظة السفير الأفغاني الاصل. وصدرت في ذلك الحين منشورات تهاجم السفير وتنتقد سياسة الولاياتالمتحدة التي غالت في"تدليل"السنّة على حساب الشيعة. وذكرّت المنشورات بمجازر 1991 يوم صمتت إدارة جورج بوش الأب عن التصفيات التي ارتكبها جيش صدام ضد الانتفاضة الشيعية في الجنوب. واليوم تجددت الحملات ضد الإدارة الأميركية بعدما ذكرت الصحف أن السفير زاد طلب تأجيل تنفيذ الإعدام اسبوعين. واستنتج المعترضون أن طلب التأجيل كان يرمي إلى تنفيذ خطة تهريب صدام حسين الى خارج العراق. ثم جاء تعليق القائد الأميركي ليزيد من حدة الاتهامات، خصوصاً عندما اعترض على طريقة التنفيذ، وأعلن ان بلاده كان يمكن أن تطبق الحكم بأسلوب مختلف عن الأسلوب الذي مارسته حكومة المالكي. وفي مؤتمره الصحافي تحاشى الرئيس بوش التعليق على هذا السؤال، الأمر الذي خلق شرخاً في العلاقات قد يزيد من حدة الأزمة إذا لم تبادر الإدارة الأميركية الى رأب التصدع السياسي. ويتردد في واشنطن أن سحب السفير زاد قد يكون الثمن الذي يقبل به الشارع الشيعي الغاضب، علماً بأن بوش رفض التخلي عنه يوم أبعد الوزير رامسفيلد عن إدارته. ولكن هذا التراجع قد يفسر من قبل السنّة بأنه دعم لحكومة المالكي وتبرير لتنفيذ حكم الإعدام بصدام ولو فجر عيد الاضحى. جرى تعيين زلماي خليل زاد سفيراً في الإدارة الأميركية آخر التسعينات، بعد أن أتم دراسته في الولاياتالمتحدة وكتب اطروحته عن حركة"طالبان"وأهمية أفغانستان بالنسبة لنفط قزوين. ثم انتدبه الرئيس بوش لرعاية مؤتمر المعارضة العراقية الذي عقد في لندن كانون الأول/ ديسمبر 2002. وقد رافقه إلى المؤتمر الذي استمر خمسة ايام وفد أميركي موسع ضم أعضاء في مجلس الأمن القومي والدفاع والخارجية. وعقب تعيينه سفيراً في بغداد أوكل إليه الرئيس الأميركي مهمة مرجعية تتعلق بحل الخلافات التي تنشأ بين أطراف الحكم. وفي أول اختبار له في هذا الحقل، اصطدم مع مسعود بارزاني الذي هدد بالانسحاب من الاجتماع إذا لم يعتذر السفير. ولما اتصل بالبيت الأبيض نصحوه بالاعتذار لأن خلافه مع مسعود قد يعرقل مهمته الصعبة. يعترف بعض رجال الكونغرس الأميركي بالأخطاء التي ارتكبت في العراق، وينحون باللائمة على إدارة بوش لكونها تجاهلت الخطر الحقيقي الممثل بخلاف الشيعة والسنة. وهو خلاف متجذر ساعدت الحرب على فتح جراحاته القديمة، ثم جاءت عملية إعدام صدام لتصب الزيت على نار الأزمة وتجعل من مقتله منطلقاً لمرحلة جديدة من الاقتتال الطائفي ربما ينهي العراق الجديد قبل أن يبدأ... * كاتب وصحافي لبناني