من لا يتذكر قصة الأخوة الأعداء للكاتب الروسي الكبير ديستوفسكي، تلك القصة التي سبر فيها الكاتب أغوار النفس الشرية محللاً إياها ورابطاً بين الدوافع النفسية والمعنوية المختلفة والمصالح المادية، والتي تصبح روابطها ودوافعها ارقى وأهم بكثير من الروابط الاجتماعية والإنسانية، أي روابط الدم والأخوة. تلك الدراما التي ادت في نهايتها وفي سياق الصراع التنافسي الأخوي الى مقتل الأدب وما يمثله، ليس بصفته البيولوجية وإنما الرمزية، وكذلك باعتباره جزءاً من الصراع الدائر بين الأخوة الأعداء. ان استذكار هذه القصة يأتي في خضم الصراع السياسي بين الفلسطينيين اليوم قد يصلح ليكون إسقاطاً لتلك الصورة التي عكسها ديستوفسكي قبل نحو اكثر من مئة عام عن تحولات المجتمع الروسي. لكن أياً كانت المفارقات التي يمكن الاتكاء عليها في إسقاط هذه الصورة على أي من الحدثين على الواقع الفلسطيني المعاش، فإن النتائج المأسوية للصراع الفلسطيني - الفلسطيني ستكون أكبر بكثير مما ولدته تلك الميثولوجيا الدينية التي انتهت بقتل الأخ لأخيه، او تلك القصة الروسية التي عكست عصراً من التحولات المجتمع الروسي آنذاك، منذرة بسقوط طبقة ومرحلة وصعود اخرى ما ادى الى ثورة تشرين الأول اكتوبر الاشتراكية عام 1917. ان التحولات في المجتمع الفلسطيني جراء الأزمة السياسية والاقتصادية وتفاقم الأوضاع الاجتماعية لا تعكس رؤية سياسية فحسب لدى تيار سياسي وفكري محدد، بقدر ما تعكس رؤية إسلاموية جديدة قديمة ترى في اسباب الأزمة الابتعاد عن الدين، وفي انتصار هذا التيار عبر العملية الديموقراطية التي جرت في الانتخابات التشريعية العام الماضي، فرصة تاريخية امام تيار الإسلام السياسي الذي تمثله حركة"الأخوان المسلمين"العالمية، باعتباره اولى الخطوات نحو تكريس هذا النموذج وتعميمه بالوصول الى السلطة، ورفض الشراكة السياسية والمضي ما امكن في ترجمة برنامجها السياسي والاجتماعي لإقامة الدولة الدينية من خلال اسلمة المجتمع وتديين السياسية وتسييس الدين والإقصاء والتهميش على المستوى الوظيفي، والتخوين والتكفير لمن يختلف في الرأي وطغيان لغة خطابة شعبوية معممة، مليئة بالشعارات التي تحمل أشكالاً متنوعة من التطرف والغيبية بما في ذلك الاختلاق والتزييف، والتحلي في سبيل تثبيت ركائز هذا الحكم بكل اشكال البراغماتية السياسية التي يعجز الميكيافيليون الجدد والقدامى من الوصول إليها. وفي المقابل فإن التيار الوطني بكافة ألوانه وتشكيلاته الذي حمل راية الوطنية الفلسطينية خلال العقود الأربعة الماضية، وحقق من الإنجازات الكبيرة للقضية والشعب الفلسطيني، بدأ من الاعتراف العربي والدولي بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي وحيد للشعب العربي الفلسطيني، الى قيام اول سلطة وطنية فلسطينية على الأرض الفلسطينية، هذا التيار الذي خسر مواقعه ليس بسبب تمزقه وانقسامه على ذاته فحسب، وإنما بسبب اصطدام مشروعه التحرري الوطني القائم على الرهان بنجاح عملية السلام على قاعدة الشرعية الدولية، وبفقدان الشريك الآخر، وتحول الوسيط من راع نزيه للعملية السياسية الى شريك للطرف الآخر، كما ان إهماله"لقضايا الجماهير ومعاناتها وتكريس الممارسة البيروقراطية، وتفشي اشكال متنوعة من المحسوبية والفساد الإداري والمالي وفر الفرصة لانفضاض اوساط جماهيرية واسعة محسوبة عليه من حوله، ليس بسبب هذا فحسب بل، لاستخدامه لغة خطاب التدين الشعبوي نفسها, خصوصاً منذ اندلاع الانتفاضة الأقصى، وتوفيره الفرصة للتيار الأصولي السياسي للحصول على مكاسب مهمة لأن التيار الوطني لعب على ميدان تفوقه اساساً فاختار الجمهور الأصل وليس الصورة، واستطاع ان يوظف مجمل هذه الأخطاء ويترجمها بصيغة ارقام انتخابية. فهل يستفيد الفلسطينيون، خصوصاً التيار الوطني والديموقراطي العلماني من استخلاص العبر من قراءة الواقع وتحليلهن قبل حدوث تحولات عميقة في المجتمع تطيح بكل ما انجزه وراكمه خلال العقود الأربعة الماضية، وهل سيوفر قوى ضغط جماهيرية على التيار الأصولي في حال فشلت طرق الحوار ووصلت الى طريق مسدود لحمله على الاحتكام مجدداً لصناديق الاقتراع؟ د.احمد مجدلاني - بريد إلكتروني