الكتاب: "الاسلام الثابت الحضاري والمتغيرات السياسية" المؤلف: الدكتور الكسي مالاشينكو. ترجمة: الدكتور ممتاز بدري الشيخ. الناشر: دار الحارث دمشق ط، 1999 - 206 صفحات قطع كبير. في اطار سعيهم لإعادة النظر بقراءاتهم احادية الجانب للاسلام في الحقبة السوفياتية يحاول عدد من المستشرقين والمستعربين الروس تصحيح ما انتجته "الآلة الاكاديمية السوفياتية" بشأن الأديان والعقائد، لا سيما في ما يتصل بالاسلام ومواقفه السياسية والحضارية، اذ كانت تلك القراءات تعاني من نقيصتين أساسيتين. اولاهما تتمثل بالأيديولوجية الرسمية ومنطلقاتها المادية الجامدة، وثانيتهما، المفاهيم والتصورات المستمدة من "الترسانة" الاستشراقية الأوروبية وخلفياتها. من هنا تبرز أهمية وراهنية الكتاب الذي ألّفه الاكاديمي المعروف ألكسي مالاشينكو مدير دائرة الدين والأيديولوجيا في معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم الروسية المهتم خصوصاً بالجوانب السياسية للاسلام، ودوره الحضاري - الثقافي الحالي والمستقبلي في الأنظمة والتيارات الناشطة في الجمهوريات والأقاليم الاسلامية، التي كانت وما زالت اجزاء منها تحت السلطة "السوفياتية - الروسية". يحاول المؤلف الاجابة عن اسئلة شديدة الأهمية والتعقيد، مثل مفهوم "الحضارة" وعناصرها، و"الفضاء الثقافي" ومكوّناته... الخ، انطلاقاً من نظريات وفرضيات معروفة في هذا المجال، ليخلص الى ان "الحضارة" هي جملة العلاقات التي تحكم الأفراد ضمن جماعة دينية محددة تلتزم بتعاليم دينها، الامر الذي يضمن ثبات واستمرارية المعايير الأساسية للسلوك الفردي والجماعي موضوع الفصل الأول. في هذا المنحى نلاحظ ان مالاشينكو التزم الى حد كبير نهج المؤرخ البريطاني توينبي، وكذلك رؤية الفيلسوف البوذي الياباني دايساكو ايكيدا في تركيزهما على العامل الديني في نشوء الحضارات. كما انه يبدو متأثراً برأي العالمة الروسية ل. ر. بولونسكايا، القائل ان الدين هو الأساس الحاسم في تحديد ماهية الحضارات الاقليمية وهو ما طرحته مثلاً في بحثها "الاسلام ومشكلة التأقلم مع الحضارات الاخرى"، المنشور ضمن كتاب "الاسلام وقضايا التفاعل ما بين الحضارات"، موسكو، 1992/ بالروسية. وفي رأيه ان الاديان تشكل "ثوابت حضارية" تبقى موجودة وفاعلة بصرف النظر عن درجات او مراحل تطور المجتمع. وبعبارة اخرى - يقول المؤلف - ان الثابت الحضاري، هو المقام المشترك لمعتنقي الديانة الواحدة، اياً كانت البقعة الجغرافية التي يسكنونها، وأياً كان الجنس الذي اليه ينتمون، ومهما كانت الأوضاع الاقتصادية متباينة في ما بينهم ص16. من ناحية اخرى، فإنه يعتقد ان الاصولية تشكل احدى تجليات الثابت الحضاري. والرأي نفسه قاله العالم والفيلسوف الفرنسي جيل كيبيل الذي اشتهر بدراساته عن الاصوليات المعاصرة، اذ يؤكد ان محاولات "العودة الى الأصول" لبناء المجتمع المعاصر، سمة ملازمة لغالبية الاديان بما فيها الديانة اليهودية والتيارات الكاثوليكية وأيضاً الهندوسية انظر كتابه "يوم الله: الحركات الاصولية المعاصرة في الديانات الثلاث"، ترجمة نصير مروة. قبرص: دار قرطبة، طبعة عربية أولى، 1992. في كل الاحوال الاصولية ليست سمة خاصة بالدين الاسلامي، كما يتبادر الى ذهن الكثيرين، وإنما هي حركة تعمل لإعادة بناء المجتمع وفق الأصول الأولى المقدّسة، حتى وإن كان الثمن تغيير المجتمع بأكمله ان اقتضت الضرورة ذلك. الأكاديمي الكسي مالاشينكو يعد قضية الحفاظ على الهوية الحضارية محور الصراع السياسي في الشرق، وتكاد تكون الغاية هي نفسها في الغرب. اذ تبرز التيارات والمذاهب المسيحية - الاصولية لمقاومة الاغتراب الروحي، والفوضى القيمية - الاخلاقة، وتفكك الروابط الاسرية والاجتماعية... الخ. وفي السياق ذاته تحتل الاصولية اليوم ركناً متميزاً في فضاء الحياة الدينية والسياسية في روسيا بعد انهيار النظام السوفياتي. من هذا المنطلق يحلل المؤلف تداعيات النزعة الاصولية الارثوذكسية في روسيا، ومقارنتها بالأصولية الاسلامية. مع تحفظنا على مجموعة من الافكار والمفاهيم والاصطلاحات، التي تراءى له تشابهها او تطابقها في العقيدتين والمنظومتين المشار اليهما ص ص21 - 22. ومن ذلك المبالغة الواضحة في دور الظروف السياسية والنفسية الراهنة في تكوين "عقدة النقص" لدى الشعوب الاسلامية والروس الارثوذكس امام الآخر - "الغرب". اما فشل الانظمة والقيادات في توجهاتها وخططها وبرامجها الاجتماعية، ومعاركها العسكرية... الخ، فهي لا تخلق أصولية، كما يؤكد المؤلف، وان كانت تشكل مادة للعمل الدعاوي والايديولوجي للتيارات والاتجاهات الاصولية. لكنه في موضع آخر يعود الى منطلقاته المنهجية في تحديد الاصوليات، خصوصاً الاسلامية، التي ترتكز الى مبدأ "العودة الى حالة الاسلام الأولى والعمل على تمثّل قيم حياة المسلمين الأوائل، بغية التمكّن من اعادة بناء الدولة الاسلامية كما كانت في منتصف القرن السابع للميلاد" ص23. ويختلف المنحى والمنطلقات لدى الاصوليين الروس - الاثوذكس، الذين - وإن كانوا يطالبون بالعودة الى المسيحية الأولى بما تمثله من طهرانية وقيم وزهد في الأمور الدنيوية - الا انهم يماثلون بين الشعور الديني والقومي، اي ان احياء المسيحية الارثوذكسية يعني في عرفهم احياء مجموعة عرقية بعينها - الأمة الروسية، المتحدرة من "الأرومة السلافية". اما الاسلام فهو دين أممي فوق قومي يتخطى حدود الشعوب والاختلافات العرقية والقومية، والأصولية فيه تعني - في هذه النقطة - العودة الى نقاء العقيدة وصفائها، وبعدها عن "شوائب" الاستعلاء العنصري - العرقي، او الشوفينية القومية البغيضة. لدى استعراضه بعض الكتابات التي حاولت المقارنة بين الاسلام والشيوعية كما فعل العلامة توينبي أو برنارد لويس وغيرهما، خلص المؤلف الى وجهة نظر مغايرة، مؤداها ان الايديولوجيتين تختلفان جوهرياً، لأن الاسلام حضارة تشكلت تاريخياً من خلال تشريعات ضابطة للعلاقات بين الأفراد والمجتمع، والأفراد في ما بينهم. ومن خلال قيمه السامية التي ترتكز على الأمة الاسلامية المتسمة بالاستقرار والاستمرار تاريخياً. اما الشيوعية فهي لا تمثل حضارة، ومجرد مقارنتها مع اي من الحضارات الاقليمية العالمية الاتجاه نجد انها أي الشيوعية تفتقد الى الجذور الاجتماعية - الثقافية الخاصة بها. وهي مثلها مثل الرأسمالية، من حيث انها انظمة أو تشكيلات اجتماعية - سياسية، ترتكز الى جملة علاقات اقتصادية محددة ليس اكثر ص39. فالشيوعية لم تستطع تثبيت اقدامها في اي من البلدان الاسلامية، نظراً الى صلابة وقوة "الثابت الحضاري" للاسلام. "ولهذا بقيت الشيوعية التي لا تتضمن جذوراً حضارية مجرد خيال يوتوبيا/ فكرة طوباوية تحمل في طياتها مقدرة تدميرية عالية يقول المؤلف وتكمن المفارقة في ان التحولات الاقتصادية والمنجزات الاخرى للثورة الثقافية كانت منذ البداية عقيمة الآفاق، وتحمل في صلبها بذور الانحطاط القادم للمجتمع" ص41. بل ان عدم جدوى الممارسات السوفياتية في ادراج السكان المسلمين ضمن الاشكال الانتاجية الغريبة عنهم، اجبر موسكو على نقل جماعي للسكان الأوروبيين الى جمهوريات آسيا الوسطى، وتوطينهم هناك بغية تغيير البنية السكانية المتجانسة عرقياً ودينياً، كوسيلة ضغط اخرى لتغيير طريقة وشكل الحياة الاسلامية في تلك المنطقة. ومع اهمية ما طرحه المؤلف في الفصول المكرّسة لتاريخ ظهور الاسلام السياسي والمنظمات الاسلامية في المرحلة السوفياتية، وإشكاليات الحركة الاسلامية في "دول الكومنولث"، ودراسته اوضاع المسلمين في روسيا الاتحادية وما يحدث هناك من نزاعات عرقية - سياسية من الفصل الثالث الى السادس، الا اننا نعتقد ان الكاتب تألّق وحالفه النجاح في الفصل الثاني، الذي خصّصه لمناقشة العلاقة التصادمية بين الشيوعية والاسلام. وذلك ضمن قرار الدولة السوفياتية "أقلمة" او تكييف الاسلام مع الاهداف والتصورات الشيوعية مرة، وقرار ازاحة الاسلام واقتلاعه بالقوة من تلك المجتمعات، ومحو تأثيرات قيمه وتعاليمه بصورة "منهجية" لا تقبل المهادنة او المسايرة. وباستعراض اشكال الصراع بين الشيوعية والاسلام، يستنتج المؤلف ان الاسلام دائرة حضارية اقليمية عملاقة بثقافته وتقاليده السياسية، المزودة بتجربة تاريخية عظيمة على رغم اعتراضنا على سمة "الاقليمية" للحضارة الاسلامية، لأنها في واقع الامر كونية او عالمية. اما الشيوعية فهي نظام ايديولوجي خارج الاطار الحضاري، ولكنها استطاعت بفضل جملة من العوامل الموضوعية والذاتية ان تعشعش وتنمو في اراضي الامبراطورية الروسية ص48. وتكمن مصيبة الشيوعيين في انهم نظروا الى النظام الشيوعي والايديولوجية الماركسية - اللينينية كبديل دائم وحقيقي و"مقدّس" لكل الحضارات العالمية والاقليمية القائمة. ولهذا جرت محاولات رسمية منظمة لتكريس الماركسية ديناً جديداً، بدلاً من الاديان والعقائد التي اعتنقتها الشعوب والمجتمعات. وأثبتت الاحداث التي يسوق الكاتب بعضاً من أبرزها انه على رغم المحاولات القاسية لاستئصال الاسلام والاجهاز عليه في المناطق والجمهوريات الاسلامية - داخل الامبراطورية الروسية - السوفياتية - او عبر "تكتيكات" ومناورات متعددة وكثيرة تحت شعارات معروفة، على رغم ذلك كله ثبت عقم تلك الأساليب وفشلها الذريع. وبقيت محاولات فرض "التعايش" بين العقيدتين والرؤيتين والمنهجين مجرد "حلم وأوهام مريضة"، لأن الاسلام كان وما زال يجري في نسغ الحياة الاجتماعية والثقافية والروحية لتلك الشعوب. في هذا السياق يذكر المؤلف مجموعة من الوقائع، التي تبرز الطابع العنيف والدموي والاستئصالي، الذي مارسته السلطة السوفياتية على مدى سبعين عاماً ضد الأئمة والعلماء والفئات المثقفة من المسلمين. وأهملت عن قصد وسابق تصميم الثقافات القومية للبلدان التي تدين بالاسلام، مثل اذربيجان، وطاجيكستان، وأوزبكستان... وشعوب القوقاز المسلمة كالشيشان والشركس والأنغوش والداغستانيين وغيرهم. وهي شعوب أصيلة، شجاعة يلتحم في تراثها وعاداتها وقيمها العامل الديني بالوطني والقومي ص57. استمرت الحملات العديدة والمتنوعة لمحاربة الاسلام بأساليب لا حصر لها، كأن تقوم السلطات السوفياتية بنفي شيوخ الاسلام وعلمائه المتمكنين، وبالمقابل توظيف فئة مهادنة في آرائها وتوجهاتها، كان دورها ينحصر في تبرير وتسويغ تصرفات تلك السلطات وأجهزتها القمعية. مع ذلك فشلت ماكنة الدعاية الشيوعية في تحقيق غاياتها. وفشلت الممارسات السوفياتية الهادفة الى "أوربة" المواطنين المسلمين. فكان الشكل الظاهري للمجتمعات هناك سوفياتياً، لكن الجوهر والحياة والعقيدة والتطلعات ظلت اسلامية، "وبقي هذا الدين احد اكثر العوامل تأثيراً في حياة الفرد والمجتمع" ص6. ويبدو ان لا مكان للشيوعية - يقول المؤلف - في ظل الاقطار الاسلامية، لأن النظام الاسلامي في تلك البلدان استطاع ان يعبّر عن مصالح وآمال المسلمين بشكل اجدى وأصدق وأسمى من أي برنامج شيوعي آخر. في النهاية يؤكد ألكسي مالاشينكو ان التجربة اثبتت الحقيقة القائلة ان النظريات الايديولوجية، والأنظمة السياسية المنبثقة عنها تظهر تارة وتختفي اخرى، اما القيم الحضارية النابعة من الدين والثقافة الروحية فهي ثابتة ودائمة وتنتقل من جيل الى آخر.