من يتابع سوق النشر العربية سيلاحظ غلبة الكتب المترجمة في العلمين الطبيعي والإنساني، بغض النظر عن نوعيتها ومستواها المعرفي والدقة في الترجمة، على ما يصدر من كتب أخرى كتبها باحثون عرب معاصرون. وإذا صدقنا ما جاء في تقرير التنمية الإنسانية الخاص بالعالم العربي، الصادر قبل سنوات والذي يقول واضعوه إننا لم نترجم طوال تاريخنا، منذ أيام بيت حكمة المأمون ما يترجمه الإسبان خلال سنة واحدة، فسنتعرف على معالم الكارثة التعليمية الثقافية المعرفية الوجودية التي يرزح تحت ثقلها العرب المعاصرون. فإذا كانت الترجمة هي الغالبة عند عدد كبير من دور النشر العربية فما هو حال التأليف في العالم العربي؟ وإذا خصصنا أكثر: ما هو حال التأليف العلمي في ميادين العلوم الإنسانية والتقنية والطبيعية؟ وهل تقتصر الأمية على القراءة والكتابة، التي قال تقرير منظمة الألكسو التابعة لجامعة الدول العربية قبل أيام إنها تتجاوز سبعين مليون شخص ضمن الفئات العمرية التي تزيد عن خمسة عشر عاماً، أم أنها تمتد إلى الأمية التعليمية والأكاديمية والثقافية والمعرفية، وتلك هي الأهم من بين الأميات جميعاً؟ بلى، إن دور النشر العربية تفضل عموماً ما هو مترجم عن اللغات الأوروبية المختلفة من قصص وروايات وكتب سياسية ويوميات كتبها سياسيون وعسكريون أجانب عن الغرب أو الشرق في اعتقاد سائد بأن هذه الكتب هي التي تلقى رواجاً في الأسواق وتعجب القارئ غير المتخصص وتستهوي أشخاصاً متنوعي الأمزجة والمهن. ولا ندري على وجه التحقيق ما إذا كانت هذه الاعتقادات صحيحة مدعومة بالشواهد أم أن الأمر يدخل في دائرة الظن والتمني من جانب ناشرين يستسهلون طباعة الكتب المترجمة لأنها أقل كلفة، فهم يدفعون قليلاً من المال للمترجمين، ويستطيعون إعادة طباعة الكتاب المترجم مرة بعد مرة من دون أن يحق للمترجم تقاضي مبلغ آخر عن أي طبعة جديدة بعد الطبعة الأولى. المسألة إذاً تقع في جانب منها في دائرة سوق النشر، وعالم العرض والطلب، وعدم ارتقاء مجال النشر في العالم العربي، بسبب ضعف المؤسسات وقلة عدد القراء بعامة، ليصبح قطاعاً اقتصادياً قادراً على القيام بنفسه وتوفير دورة اقتصادية تجعل الناشر والمؤلف والمترجم والموزع مرتاحين لما تدره صناعة الكتاب عليهم. وفي هذه الحال يصبح نشر الكتب المترجمة والكتب التي يقوم بتأليفها كتاب وأكاديميون وعلماء عرب متساوياً، أو على الأقل متوازناً، خصوصاً في ميادين العلوم الطبيعية والإنسانية المختلفة. لكن الوجه الآخر والأهم من وجوه المسألة لا يتعلق بالناشرين بل بالمؤلفين العرب، في ميادين المعرفة المختلفة، في هذه الحقبة من تاريخ العرب المعاصرين، حيث بلغ الخمول ببعضهم مبلغه، ولم يعد أساتذة الجامعات يؤلفون في تخصصاتهم، أو يضيفون الى حقول المعرفة المتخصصة، إلا أقل القليل. ولهذا يلجأ القراء العرب إلى ما هو مترجم في تلك الحقول، حتى لو كان رديء الترجمة، فاسد اللغة، غامضاً يصعب فهمه. ثمة جانب آخر من جوانب هذه الأزمة هو القارئ العربي الذي يتوجه الى كتب التراث أو الكتب المترجمة الرخيصة. فقد دفع هذا القارئ المؤلفين العرب إلى حائط اليأس واستمرأ البعض منهم هذا الوضع إلى درجة أنهم كفوا عن التأليف والبحث. والجامعات العربية شاهد على هذا الوضع المؤلم حيث لا يكتب المدرسون الجامعيون في الغالب إلا بحوثاً الغاية منها هي الترقية وليس البحث العلمي الخالص، ونسبة المدرسين الجامعيين الذي يهتمون بالبحث وارتياد آفاق جديدة من المعرفة قليلة للغاية في الجامعات العربية التي يحتاج وضع التدريس فيها ومعاهد البحث العالي ومراكز البحث العلمي إعادة نظر وفحص واستنهاض لئلا يتراجع التعليم وينهار تماماً في العالم العربي خلال السنوات القليلة المقبلة"وثمة مؤشرات مرعبة على ذلك يمكن أن نراها ونلمس آثارها في كل مؤسسة تعليمية عربية. قد يكون في هذا الوضع بعض الإجابة عن أسباب غلبة الترجمة والركون إلى الكسل في الكتابة والبحث في عالمنا العربي الذي فقد القدرة في هذا الزمان على وضع قائمة فعلية بأولوياته، والتركيز على الأمور الأساسية التي ينبغي أن تقوم بها الدول والحكومات والجامعات ومراكز البحث العلمي.