لا نعرف عن اجتماعيات حائزي جائزة نوبل الأحياء سوى حضورهم لقاءات وندوات معدة سلفاً، وهي لقاءات رسمية وباردة. ربما وحده نجيب محفوظ يحظى برعاية أصدقائه ودفء المجلس، كأنه كبير القرية أو حارة المدينة. كاتب يعيش شيخوخته من دون معوقات، فأصدقاؤه هم سمعه وبصره ونافذته على جديد مصر والعالم. أصدقاء يعملون في مجالات متعددة، أشهرهم الروائيان جمال الغيطاني ويوسف القعيد، يتحلقون من حوله، يقرأون له الأخبار ويردون على تساؤلاته حول أحداث وقضايا، ويسمعون أجوبته وآراءه. ونجيب محفوظ يميل الى التحفظ، لا يقول الرأي القاطع الا اذا أدرك المعطيات كلها وتأكد، كأنه في ذلك يعطي درساً لأولئك الذين يمدحون ويذمون بتسرع، وبتسرع أيضاً يلونون العالم بالأبيض والأسود، عالما للحلفاء وآخر للاعداء. مجلسه في "فرح بوت" في القاهرة على كفّ الماء، والنيل الصامت يحمل أسرار الذين مروا على ضفتيه وبقيت ظلالهم. في مجلس نجيب محفوظ لليلة واحدة هذه العينة من الحديث: - قال جمال الغيطاني ان تحسين القاهرة الفاطمية سيترافق مع إخلائها من السكان لتصبح منطقة سياحية، فكيف تحتفظ بطابعها من دون سكانها؟ استمع محفوظ باهتمام، ودخلا في تفاصيل حول القاهرة الفاطمية وذكرا أمكنة معينة تحدها، وهي للمناسبة، حوالى كيلومتر مربع شهدت أحداث معظم روايات محفوظ الواقعية. مرت سنتان على رؤيتي الكاتب الكبير، هو الآن أقوى صوتاً وأضعف سمعاً، وقد ترك شعرات قليلة من ذقنه تنمو طويلاً، وبدا لي وجهه شبيهاً بوجه أي عجوز مصري: كيف يوحّد التقدم في العمر الناس في هيئة واحدة؟ - يستعيد الروائي الكبير أغنية لمنيرة المهدية في التضامن مع سعد زغلول. ويسترسل عن الأحكام المشددة ضد منتقدي اسماعيل صدقي، فيذكر خطاباً لمكرم عبيد "حينما أنادي بالاستقلال يقولون أنني أكذب، وفي هذه الحال أقول: يحيا كذبي ويسقط صدقي". - يقرأ جمال الغيطاني في أذن نجيب محفوظ قصائد بالعامية للشاعر الراحل فؤاد حداد، وتنعقد مقارنة بين شعره وشعر صلاح جاهين. يتحدث علي الشوباشي عن فؤاد حداد الذي التقاه في سجن الواحات، قال انه كان مثقفاً خجولاً بسبب ضعف سمعه، وان شعره العامي، هو الذي ينتمي الى الشوام المتمصرين، علامة انتماء الى مصر. تخيلت الشاعر الراحل قلبه مليء بالمحبة، ويبحث عن برهان، لا لنفسه بل للآخرين، انه مصري أصيل. وتخيلت ان لبنانيين كثيرين مهاجرين يفتقدون الانتماء الى وطن. - ذكرت في المجلس قضية شكوى محافظ الجيزة على الصحافي محمود السعدني. قال جمال الغيطاني انه سيرافق السعدني الى السجن تضامناً. سأل نجيب محفوظ عن المسألة فقيل ان السعدني اتهم المحافظ بالموافقة على هدم عشرات القصور والفيلات. سأل مجدداً: ما هي المواصفات القانونية للقصر والفيلا؟ الساعة تتعدى العاشرة مساء والنيل يتموج مكسراً أضواء الضفتين، والقاهرة تلملم صخبها في البيوت ليبدأ الليل في التعمق داعياً الى سهر طويل، لكن نجيب محفوظ يتحفز قليلاً، ويدرك الأصدقاء ان ديك "فرح بوت" يصيح في العاشرة ولا ينتظر الصباح. ينفضّ الحضور كلّ الى شأنه وينقطع حديث "فرح بوت" من دون ان ينتهي لأن مجلس نجيب محفوظ، مجلس ابن بلد، يستمع الروائي الكبير كثيراً ويتكلم قليلاً وازناً كلماته بميزان الذهب، ويدرك ان بلده مصر تحبه كما يحبها كثيراً، وان الاعتداء الذي تعرض له استثناء يستحق الغفران احتراماً للقاعدة.