إذا كان الثلثاء الدموي في لبنان مجرد "رسالة" كما اعتبره معارضون لفريق قوى 14 آذار، جاز التساؤل كيف تكون إذاً بداية الحروب الأهلية المذهبية والطائفية التي لا يصدق الناس أنها لم تطرق بعد ابواب بلدهم وعاصمته… وأن 23 كانون الثاني يناير 2007 ليس نسخة منقحة عن 13 نيسان ابريل 1975؟ المشهد الذي لم يحجبه دخان الثلثاء الأسود، هو خطوط تماس جديدة انتصبت في نفوس جميع اللبنانيين، كما ارتسمت خطوط حول مواقع نفوذ كل من أطراف المعارضة التي لا تستطيع تجاهل حقيقة ما تركه اضرابها من علامات استفهام ضخمة حول إمكان إنقاذ البلد من الكارثة، فيما هدف الاحتجاجات كما تقول هو إنقاذه من الحكومة وأنصارها. كان المشهد عراقياً بامتياز: ملثمون وشارات نصر يرفعونها فوق ساحات الخراب، ومؤيدون سنّة ل"تيار المستقبل"يصدون موجات بشرية نفذها شيعة من عناصر"أمل"و"حزب الله"، فيما المواجهات بين أنصار ميشال عون وسمير جعجع ساخنة على التخوم، لم تنتقل لحسن الحظ الى قلب ما يسمى المناطق المسيحية. إشاعات عن قناصة ساهموا في إطلاق النار، واستقدام اسلحة بعد محاصرة المضربين لبيروت ساعات. جبال من رمال، واكتمل المشهد، كأنه بعد حادثة"البوسطة"عام 1975، مع فارق وحيد وخطير: ان الفلتان وإطلاق العنان لغريزة التحدي، مهما قيل عن حق التعبير الديموقراطي، سيقودان لبنان سريعاً الى كارثة مزدوجة، طائفية ومذهبية. المؤلم ان هناك من يرى في وقائع اليوم الأسود أول من امس، تمريناً ناجحاً على اختبار مقدرة بعض القوى، وتماسك أنصارها وهم يضيّقون الخناق على الحكومة بتحديها ان تقمعهم وتفض احتجاجاتهم في الشوارع، والتي تحولت صدامات بالسلاح والعصي والسكاكين، ورجماً للآمنين في منازلهم. المؤسف ان ما لم تره المعارضة من نتائج تحركها"المتدحرج"، هو صب مزيد من الزيت على نار الغضب المتأجج منذ انبلج فجر وقف الحرب الإسرائيلية، واتضح حجم النكبة التي ألمّت بالبلد، بكل قواه وطوائفه. ولا مبالغة في وصف ما يفعله بعض اللبنانيين ضمن صراعات الإخوة الأعداء، المتأججة بنفير من الخارج، بأنه استيلاد لنكبات لن يقوى احد على محاصرة اوارها وسوادها، مثلما حوصرت العاصمة في غضون ساعات قليلة، واقتيد المدنيون رهائن رعب من الآتي الأعظم... لا يهم إذ ذاك البحث عن الجاني. وأن تقول المعارضة ان الرسالة وصلت، فذاك لا يعيد المتخاصمين الى طاولة حوار، ما دام الفريق الذي أعلن الحرب على حكومة"غير شرعية"، يحتفظ أو يوحي بأنه يمسك بخيارات متنوعة ضمن خطط التصعيد"المتدحرج". والأهم ان شريحة كبيرة من اللبنانيين لم تكن لتصدق منذ بدء الاعتصام في قلب بيروت، ان تبديل سلطة حاكمة يستحق المغامرة بمصير الوطن… والأهم ايضاً ان ما أنتجه الثلثاء الدموي هو ضخ دماء غزيرة في شرايين الفتنة. لعن الله الفتنة، ولن تكفي اللبنانيين النيات الحسنة. بل لا شيء بات يقوى على إقناعهم بأن احتجازهم جميعاً في سجن من كابوس"الحرب الآتية"، إنما هو ثمن لا بد من دفعه ضريبة مضافة، من اجل غد رائحة الفساد فيه أقل، والعدل فيه بنظام مشاركة، محاصصتها لا تؤمّن هي ايضاً درعاً واقية للبنان من الفتن. فكل محاصصة أقصر طريق الى الاستقرار الملغوم، والزلازل الموسمية. ماذا بقي ليكتمل مسرح الحرب بين الإخوة الأعداء؟ دخان وحرائق وسلاح، وكلام على قناصة وإشاعات عن"غزوات"، وتساؤلات حول انصياع المؤسسة العسكرية الى القرار السياسي، بعد إجماع على الإشادة بدورها، صمام أمان للحريات، منذ اندلاع ازمة استقالة الوزراء الشيعة، وإحباط"بروفة"محاصرة السراي الحكومية. ملثمون في بغداد، ملثمون في بيروت، رياح"العرقنة"لن تقف عند أبواب أحد. خطوط تماس جديدة ترتسم، فيما السؤال الذي لا تخفى إجابته هو: هل اندلاع حرب من النوع الذي يهدد بإلغاء لبنان، قرار"وطني"محلي؟ أم ينساق الجميع الى الهاوية، فيُذبح البلد من اجل تبديل جِلد النظام؟