لا شك في أن أعمال كليفورد غيرتز، عالم الاناسة والفيلسوف وخبير السياسة والناقد الأدبي، أسهمت في فهم جمهور عريض معنى الشرط الإنساني. وكان أثر أفكاره في الناس خفياً شأن أثر الجاذبية في الأشياء. فهذه تجذب الناس إليها وتبقيهم بعداء في آن. فعلى خلاف غيره من المنظرين والباحثين ومؤسسي التيارات والمدارس الفكرية، لا يوصف قارئ غيرتز والمتأثر بأعماله والحاذي حذوه بال"غيرتزوي"، على ما يقال فرويدي نسبة الى المدرسة الفرويدية في التحليل النفسي. ويرى غيرتز أن الحدود بين تاريخ الذهنيات وبين الانتروبولوجيا أو الاناسة، متهافتة. فالعلاقة بين هذين الفرعين المعرفيين أي التاريخ والانتروبولوجيا كانت وثيقة في السبعينات من القرن المنصرم. وبدا أن الواحد منهما هو تتمة الآخر. فالمؤرخون يدرسون ما حصل في الماضي، او ما هو بعيد في الزمن، بينما يدرس علماء الاناسة حاضر المجتمعات البعيدة مكاناً وثقافتها. وكان غيرتز يقول إن الثقافة هي"ما لا أدري ما هو"Je ne sais quoi called culture. وألمَّ المتتلمذون على يد غيرتز بالسيميائية من دون أن يسمعوا يوماً بهذا الفرع المعرفي. فهو دعاهم الى مراقبة توسل الناس العلامات للتعبير عن رؤيتهم العالم. فالجماعات لا تقتصر على التعبير اللغوي، بل تترجم إدراكها العالم الى علامات مادية، وغير ذهنية، قائمة في حياتهم اليومية. فعلى سبيل المثال، تشير أنواع الحجاب في الصحراء المصرية الى مكانة المحتجبة الاجتماعية، والى الاحترام التي تحظى به. وفي شمال شرقي تايلندا، تراعي هندسة المنازل التناظر بين الإنسان والوحش. وفي مرتفعات غينيا الجديدة، يعتبر صيد نوع من النعامة في مثابة رحلة الى العالم الآخر، عالم ما بعد الحياة. وفي معهد الدراسات العليا في جامعة برنستون الأميركية، دعا غيرتز طلابه الى مقارنة دراسة تاريخية بأخرى أنتروبولوجية، وعلى استخلاص ما هو مشترك بينهما. فمقارنة كتاب ايفانز - بريتشارد"الرقية والكهانة والسحر عند الازنديين"، وكتاب كايث توماس"الديانة وأفول السحر"، هي فرصة إبحار في عوالم مختلفة ومتباعدة، والتحرر من قيود الدراسة المنهجية الضيقة. وسعى غيرتز الى بيان أوجه الغرابة في المألوف، وأوجه الألفة في الأمور الغريبة أو الخارجة على المألوف والمستهجنة. وعلى رغم استيائه من طغيان التجريد والبنيوية على دراسات كلود ليفي - ستروس، الاثنوغرافية أو الناسوتية، ونفاد صبره من النظرية الوظيفية في دراسات برونيسلاو مالينوفسكي، وجد غيرتز متعة في ملاحظة الفروق بين أعماله وأعمال هذين الزميلين. وكان غيرتز خجولاً، وعسر عليه شبك العلاقات بالآخرين وتدريس الطلاب. فهو درج على الكلام بسرعة، وعلى الغمغمة في أثناء شرحه. عن روبرت دارنتون مؤرخ ذهنيات، "نيويورك ريفيو أوف بوكس" الأميركية، 11/1/2007