قُتل صدام حسين يوم العيد وكنت مسافراً، وعدت الى لندن بعد يومين وكتبت باختصار شديد انه كان مجرماً، وكان إعدامه جريمة، وانه كان سيُدان لو كان القضاة اسكندينافيين لأنه يستحق حكم الإعدام ألف مرة، ثم قلت إنني أتحدى إدارة بوش كلها ان تأتي باسم رئيس حالي أو سابق أعدم عشية عيد الميلاد، أو في يومه، كما اعدم صدام يوم عيد الأضحى، وهو يوم رحمة. من دون تواضع فارغ، كل كلمة في ما سبق صحيحة وموضوعية، فماذا حدث؟ تلقيت رسائل كثيرة مهذبة بين مؤيد ومعارض، وسأعود الى بعضها بعد قليل، غير أنني تلقيت أيضاً رسائل في منتهى التطرف، وأحياناً البذاءة، ما يجعل الواحد منا يصاب باليأس من نفسه وأمته. وقد رددت على رسائل كثيرة من هذا النوع، وأختار رسالتين تعكسان التزام كاتب كل منهما برأيه وموقفه الى درجة العمى أو الصمم، ويكفي ان الذي يعارض صدام حسين قرأ في الكلمات أنني معه، وان الذي يؤيد صدام حسين فهم الكلمات على أنني ضده. سأل كاظم هل تريد مثالاً على القتل في يوم رحمة؟ السعوديون قتلوا جهيمان العتيبي ومئات من أتباعه في شهر الصوم؟ ويكمل القارئ بسرد لجرائم صدام وينتهي بحملة على السعودية. كيف تمكن المقارنة بين الاعتداء على الحرم المكي الشريف، وقتل صدام حسين يوم عيد الأضحى؟ هل كان يفترض ان يترك جهيمان العتيبي ورجاله في صحن الكعبة المشرفة؟ ثم ما دخل السعودية في ما كتبت؟ ولماذا يحدثني القارئ عن جرائم صدام حسين وقد قلت انه كان سيُدان ألف مرة... يعني على ألف جريمة. هذا القارئ مجبول بأحقاده وعقده، فلم يقرأ ما كتبت وانما انطلق منه ليسجل تطرفاً يعود بالوبال على العراق والأمة كلها. القارئ سهل أخذ الموقف الآخر، فهو بعدما بدأ بشتم قبيح أصر على أن كل ما قيل عن صدام حسين افتراءات أميركية وصهيونية، وقد أُعدم من دون وجود دليل بحجم ظفر اليد على جرائمه. وهو أيضاً هاجم السعودية وزاد عليها الكويت، وعندما رددت عليه بقسوة عاد بالنغمة ذاتها، فصدام حسين في رأيه شهيد بطل، وفي العلياء مع الصديقين والشهداء الصالحين. كيف يمكن ان يسجل إنسان على نفسه انه"بَجَم"بهذا الوضوح. الكلمات نفسها يراها واحد مع صدام وآخر ضده، لأن هذا وذاك وأمثالهما كثيرون أغلقوا العقول والقلوب، ما يفسر كيف هبط الوضع العربي الى هذا الدرك. اختار بعد هذا من رسائل كثيرة، اتفق مع بعضها وأختلف مع بعض آخر، وأرحب بالموافقين والمعارضين، فهذا حقهم طالما ان آراءهم ضمن نطاق الأدب والقانون. القارئ أنور عبدالخالق يشعر بحزن لأنه يعيش في هذا العصر، ويقول لماذا نبكي على صدام والأمة كلها أصبحت مباحة. وأقول انها استبيحت فعلاً، الا أنني شخصياً لا أبكي على صدام حسين وإنما أحتج على طريقة قتله. القارئ عبد النبي قيم طلب ألا أنسى ان صدام حسين مسؤول رئيسي عن هذه الحالة بما مارس من بطش وعنجهية. القارئ محمد عبدالفتاح يقول ان صدام حسين كان فعلاً حاكماً مطلقاً، الا انه يسجل له ما قدم للأكراد من حكم ذاتي، وارتفاع عدد العلماء العراقيين أيام حكمه، وتحول العراق الى قوة عسكرية كبرى، لذلك ورطه الأميركيون في الحرب مع الكويت لغاية إسرائيلية بحتة. وهو يختتم بالقول ان من أعدم صدام حسين حاقد وطائفي ومخالف للشرائع السماوية والأعراف والقوانين. القارئ لائق الأسد يطلب مني ان أعلّق على قول موفق الربيعي، مستشار الأمن القومي العراقي، على التلفزيون الاميركي ان الرقص حول الجثث عادة عراقية. والقارئ يكيل للربيعي نعوتاً قاسية لأنه جعل العرب يبدون همجاً وإرهابيين. وأقول إن الربيعي لم يكن موفقاً أبداً في كلامه، فنحن لا نرقص حول الجثث، ولكل قتيل من يبكي عليه. واعترض القراء: شامل طاووش وصالح محمد الصغير ومحمد عبدالمنعم وعرفان العديل على طريقة إعدام صدام حسين وحذروا من أنها ستثير نعرات طائفية. وتلقيت رسائل كثيرة عما كتبت عن برزان التكريتي قبل إعدامه، وبما اننا عرفنا ان رأسه قطع على حبل المشنقة، فقد اخترت ان أرد على هؤلاء القراء مباشرة، وأؤخر الرد على الرسائل الجديدة، فقد كان التنفيذ خطأ فاحشاً آخر وغير مبرر، مثل الاحتلال الاميركي وحكومة المالكي نفسها. أما القارئ مساعد الخبتي فقال ان جورج بوش أعدم صدام حسين لأنه لم يجد أسلحة الدمار الشامل. وتلقيت رسالة الكترونية بالإنكليزية من القارئة ايمي فيليبس التي قالت انها توافق على قولي ان العراق هوجم من دون ان تكون فيه أسلحة دمار شامل أو تكون له علاقة مع"القاعدة"، والنتيجة ان الولاياتالمتحدة خسرت ثقة العالم وقُتل عراقيون وأميركيون وبددت أموال يحتاج إليها الأميركيون، وهناك في بلادها كثيرون مثلها يرون رأيها في أن ما حدث مأساة. أكتب وأمامي عشرات الرسائل الأخرى، إلا أنني أستطيع تجاوز كثير منها، فالقراء في مرة نادرة اتفقوا معي في الرأي أن الاستراتيجية الأميركية الجديدة في العراق لن تنجح، وحمّلوا إدارة بوش مسؤولية القتل والدمار. أريد ان اختتم بنقطة مهمة جداً. فأنا أتلقى بين حين وآخر رسائل طائفية قبيحة، تتضمن هجوماً على السنّة أو الشيعة، وطبعاً فأنا لن أنشر مثل هذه الرسائل ولو في معرض الرد عليها، ولكن أقول للقراء إن أكبر خدمة يمكن أن يقدمها المسلمون الى أعدائهم هي أن يقعوا في فتنة هي أشد من القتل، لأنهم إذا فعلوا، فعلى العراق والقضية الفلسطينية وكل قضية أخرى، بل على مستقبل الأمة، السلام.