يوم السبت الماضي في هذا المكان تناولنا العلاقة النفطية بين المغفور له الملك عبدالعزيز والنقابة الشرقية الإنكليزية التي مثلت بدايات مسيرة قصة التنقيب والاستكشاف عن النفط في السعودية، واليوم نستكمل الرد على الأستاذ محمد حسنين هيكل في الجانب المتعلق بالطرف الأميركي في علاقته النفطية بالملك عبدالعزيز، ونورد بإيجاز قصة النفط السعودي مع الشركات النفطية الأميركية. لم يترك الملك عبدالعزيز مشروعه الحضاري بعد إنهائه عقد الامتياز عام 1928 مع النقابة الشرقية بعد أن تخلت عن دفع مبلغ الإيجار السنوي المتفق عليه لعام 1925، لكنه فتح الباب أمام المستثمرين الآخرين في ميدان التنقيب لاستكشاف النفط فقابل رجل الأعمال الأميركي تشارلز كراين عام 1931، الذي أحضر الجيولوجي الأميركي توتشل ليقوم ببعض الدراسات الجيولوجية، بعد أن رحب الملك عبدالعزيز بآراء كراين. وقد طلب الملك عبدالعزيز من توتشل إجراء دراسة لتحري مصادر المياه في السعودية والبحث عن النفط في منطقة الأحساء، ويذكر الجيولوجي الأميركي توتشل في كتابه S .A with an Account of the Development of its Natural Resources أنه بعد أن تأكد من وجود النفط في البحرين كلفه الملك عبدالعزيز الاتصال بالشركات الأميركية عام 1932، لكن تلك الشركات خيبت آماله عندما اتصل بها، حيث رفضت كلها واحدة تلو الأخرى. وأخيراً جاء اتصاله بشركة"ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا"، التي أبدت اهتماماً كبيراً، ويقول توتشل إنه بعد لقاءاته المخيبة للآمال مع شركات النفط الأميركية التي أبدت عدم رغبتها في الإقدام على مخاطرة نفطية في الدولة الحديثة، قبلت شركة"ستاندرد أويل اف كاليفورنيا"بعد لقاءاته العديدة مع المسؤولين فيها فوافق السيد لمباردي نيابة عن الشركة. وبعد ذلك بدأ التنافس بين الشركات على التنقيب عن النفط في السعودية وانتهى بحصول الشركة الأميركية على امتياز التنقيب، وجاء توقيع اتفاقية الامتياز في جدة في 29 أيار مايو 1933 بين السعودية وتلك الشركة، وأصبح مفعولها سارياً اعتباراً من 14 تموز يوليو 1933، ثم تلى ذلك نزول الفريق الأول من الجيولوجيين في الجبيل، وبدأ التنقيب الجيولوجي في المنطقة التي أظهرت تكوينات جيولوجية تشير إلى احتمال وجود الزيت فيها وأطلق عليها في ما بعد قبة الدمام. وفي 30 نيسان ابريل 1935، شرع بالحفر التجريبي لبئر الدمام الأولى إلى عمق 3200 قدم، لكن النتائج كانت مخيبة للآمال فلم يعثر إلا على كمية ضئيلة من الزيت والغاز، ما أدى إلى هجر تلك البئر ثم اتجه الحفر إلى طبقة البحرين الطبقة الأرضية المنتجة للزيت في البحرين، وتم حفر تسع آبار إلا ان النتائج كانت مخيبة للآمال كسابقتها، وكانت أعمال الحفر تلك قد استغرقت مدة ناهزت الخمس سنوات، لكن كل تلك المجهودات لم تؤدِ إلى اكتشاف النفط بكميات تجارية. كاد الأمل عند شركة النفط الأميركية العملاقة أن يذهب أدراج الرياح، وبدا كأنه لم يبق إلا المغادرة كما فعلت قبلها الشركة الإنكليزية، إلا أن شركة"ستاندرد اويل اف كاليفورنيا"سوكال اتخذت قرارها التاريخي لتقرر تعميق البئر السابعة إلى 1441 متراً، وإذ فعلت تدفق الزيت بكميات كبيرة فانتعشت الآمال، ليتحقق الحلم الذي طال انتظاره، وكان ذلك في شهر آذار مارس 1938، وقد أطلق على تلك المنطقة التي اكتشف فيها الزيت اسم المنطقة الجيولوجية العربية. واعتبر عام 1938 نقطة التحول الكبرى في تاريخ الشركة، وبداية الانطلاقة لقيام صناعة الزيت في السعودية، ويعتبر ذلك أول انجاز قام به المؤسس الراحل الملك عبدالعزيز لبناء الصرح الاقتصادي لبلاده بعد أن وحّد أطرافها وأشاع الأمن والاستقرار في ربوعها، واعتبر اكتشاف النفط في السعودية من أهم الأحداث التي شهدها القرن المنصرم، وبالنسبة إلى المملكة يعد حدثاً سياسياً واقتصادياً مهماً. وهكذا تغيرت السنوات العجاف إلى سنوات سمان لتبدأ مسيرة النفط السعودي العملاقة، ولتصبح السعودية اليوم أكبر دولة عالمياً في احتياطيها النفطي الذي يقدر بأكثر من 264 بليون برميل، كما أنها أصبحت أكبر دولة مصدرة لهذه السلعة السحرية، حيث يبلغ ما تصدره حوالي 9 ملايين برميل في اليوم، مع امتلاكها القدرة على رفع الإنتاج إلى حوالي 12.5 مليون برميل. وهكذا يبدو جلياً أن ما استند إليه الأستاذ هيكل من مذكرات نسبت لروزفلت لم يمت إلى الحقيقة بصلة ولا تدمغه الوقائع الثابتة، ومنها أن اتفاقية الاستكشاف والتنقيب عن النفط في السعودية التي وقعت عام 1933 وتحكمها نصوص وردت في تلك الاتفاقية، حددت التزامات الأطراف المالية والقانونية. ثم أن النفط تدفق عام 1938 وأصبحت السعودية دولة نفطية منذ ذلك التاريخ، ونقلت أول شحنة تجارية على الناقلة د. جي سكوفيلد من رأس تنورة إلى السوق العالمية، بعد أن أدار الصمام الملك عبدالعزيز إيذاناً بتحميل أول شحنة من الزيت السعودي إلى العالم. وقد بلغ إنتاج السعودية من النفط عام اكتشافه بكميات تجارية نصف مليون برميل، ثم قفز الإنتاج إلى 4 ملايين برميل عام 1939، وقفز مرة أخرى ليصل إلى 5 ملايين برميل عام 1940، ولكن الإنتاج انخفض بعد ذلك بسبب ظروف الحرب العالمية الثانية إلى 4.3 مليون برميل في عام 1943، وفي عام 1944 بلغ 7.8 مليون برميل، ثم قفز إلى 21.3 مليون برميل بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في عام 1945. وتنقل مجلة"نيوزويك"الاميركية في 1 تشرين الثاني/ نوفمبر 1943 أن كلاً من الرئيس الأميركي روزفلت والرئيس الروسي ستالين ورئيس وزراء بريطانيا تشرشل، أكدوا في اجتماع لهم أهمية نفط الجزيرة العربية في دعم الآلة العسكرية خلال الحرب وبعدها، وكان من نتائج ذلك الاجتماع الذي عقد والحرب تدور رحاها، تشجيع روزفلت للشركات العاملة في ميدان النفط في الشرق الأوسط بزيادة إنتاجها لمواجهة متطلبات الحرب من النفط نظراً إلى تدني المستوى الفني لمصافي التكرير الأميركية، بسبب ضخامة حجم عملها المستمر خلال الحرب. وقد جاء اللقاء التاريخي بين الملك عبدالعزيز والرئيس فرانكلين روزفلت على ظهر الطراد كوينسي في البحيرات المرة عند قناة السويس في 14 شباط فبراير 1945، أثناء عودة روزفلت من مؤتمر يالطا، وكان اللقاء قد جاء بعد أن أصبحت السعودية دولة نفطية واستنشقت أسواق النفط ومنها السوق الأميركية رائحة النفط السعودي، ولم يناقش الملك الراحل مع روزفلت تنقيباً أو استكشافاً للنفط، وقد استمد اللقاء أهميته في نظر الأميركيين من أهمية المنطقة نفطياً واستراتيجياً ومكانة العاهل السعودي الكبيرة وشخصيته المؤثرة، فسعت الإدارة الأميركية بفطنتها السياسية والديبلوماسية آنذاك إلى التقرب منه فعقد الاجتماع الشهير. وكان حديث الملك عبدالعزيز مع الرئيس الأميركي السابق روزفلت متركزاً على رفع الظلم والعدوان اليهودي عن العرب أكثر من تركيزه على النفط الذي حققت بلاده إنتاجه وتصديره، وقد انبهر الرئيس روزفلت بشخصية الملك وموقفه المبدئي، وقال:"إن ما عرفته عن فلسطين والشرق الأدنى في محادثاتي مع ابن سعود لمدة خمس دقائق أكثر مما عرفته من تبادل عشرات الرسائل". ولا يمكن الأخذ بما نقل عن المذكرات كقضية مسلمة على علاتها، فلا بد من التدقيق والتصحيح والتمحيص والرجوع إلى حقائق التاريخ للتأكد، خصوصاً أن الرسائل المتبادلة بين الملك الراحل عبدالعزيز والرئيس روزفلت لم تذكر حرفاً واحداً عما أورده الصحافي والكاتب الكبير هيكل نقلاً عن مذكرات لروزفلت التي أفرج عنها، فالرسائل بين الملك عبدالعزيز وروزفلت ركزت بشكل خاص على القضية الفلسطينية ومظالم العرب. وكانت كل الاتفاقات قد وقعت والنفط قد اكتشف وتم تصديره ولا علاقة للقاء الملك والرئيس آنذاك بالنفط، فحقائق التاريخ النفطي السعودي تؤكد أن كل ما يتعلق به انتهى منذ عام 1933 حتى اكتشافه وتصديره رفعت الأقلام وجفت الصحف. * مفكر سعودي - رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الاستراتيجية