تتعدد أسباب الصدمة النفسية وتختلف تجلياتها. الكوارث الطبيعية، الحروب، الإعاقة، الإرهاب، العجز عن مجاراة إيقاع التقدّم، فسخ علاقة عاطفية، العنف، سرعة تبدّل الأوضاع، الاعتلال، الفوضى... كلها وغيرها تؤدي إلى صدمات نفسية تفضي إلى اضطرابات وأزمات وأمراض. وتلقّيها والخروج من حالتها رهن بشخصية المتلقي وپ"صحته النفسية". والذي لا يهزّه احتجازه تحت الردم لأيام، قد يَنهار لطرده من العمل، فالمسألة تبقى نسبية. ولمعالجة آثار الصدمات، في هذا العصر، واسترداد عافية النفس والعقل، لم يعد يكفي - ولو أنه ينفع أحياناً - البكاء على كتف الشريك أو"الفضفضة"، أي التحدّث إلى صديق، أو التماس الحنان من أم أو حبيب. والصحة العقلية تعريفاً هي حالة من العافية الحسّية والنفسية، تمكّن الفرد من استخدام قدراته في الإدراك والإحساس، والعمل في المجتمع، وتلبية الحاجات اليومية. ووفقاً لمنظمة الصحة العالمية، لا يوجد تعريف"رسمي"للصحة العقلية أو النفسية. فالاختلاف الثقافي، والتقدير الذاتي، والنظريات المتنافسة، كل ذلك يؤثّر في طريقة تحديد الصحة النفسية. وفي شكل عام، يتّفق معظم الخبراء على أن الصحة النفسية والاعتلال النفسي ليسا ضدين. وبعبارة أخرى، غياب علّة نفسية معروفة لا يؤشّر بالضرورة إلى الصحة النفسية. ويمكن تصوّر الصحة العقلية بالنظر إلى مدى فاعلية الشخص في عمله ونجاحه. فالشعور بالقدرة والكفاءة، واستطاعة تحمّل مستويات عادية من الإجهاد، والمحافظة على علاقات مرْضية، والعيش في شكل مستقل، والقدرة على الرد أو التعافي من المواقف الصعبة، كلها علامات للصحة النفسية. وفي حال فقدانها، يمكن"ترميمها"وتعزيزها على ثلاثة مستويات: - المستوى الفردي: إظهار موارد الفرد بتدخلات ترمي إلى إعادة الاعتداد بالذات، والتكيّف وتحمّل المسؤوليات، مثل تربية الأولاد، وفي مكان العمل، أو العلاقات الشخصية. - المستوى المجتمعي: تزايد الشعور بالانتماء، واللحمة، وتطوير البرامج الضرورية لتعزيز الصحة النفسية في أماكن العمل والمدارس والأحياء السكنية. - المستوى الحكومي: تقليص العوائق الاجتماعية - الاقتصادية في وجه الصحة النفسية على مستوى الحكومات لتحقيق المساواة في الفرص لكل المواطنين المعرّضين ودعمهم. ذلك أن الاعتلال النفسي له تأثير كبير في المجتمع. ولطالما كان عبء الاعتلال النفسي والعقلي على الصحة والإنتاجية في العالم، مهملاً. وتكشف دراسة نفّذها كل من منظمة الصحة العالمية والبنك الدولي وجامعة هارفرد، أن الاعتلال النفسي يبلغ 15 في المئة من المشكلات المرضية في البلدان المتقدّمة. وهذا أكثر من المشكلات المرضية والأعباء التي تسببها كل أمراض السرطان. وفي العالم، يعاني أكثر من 450 شخصاً مشكلات نفسية أو عصبية أو سلوكية. ومعظمهم لا يستفيد من حماية لحقوقه الإنسانية أو علاج ورعاية في مجال الصحة النفسية، وفقاً لتقارير منظمة الصحة العالمية. فالصحة النفسية تأتي في أسفل سلّم الأولويات. و64 في المئة من البلدان ليس لديها قوانين وتشريعات في هذا المجال، أو تكون القوانين بالية منها. وتفشل قوانين كثيرة في حماية حقوق ذوي الاضطرابات النفسية. و30 في المئة من البلدان لا تخصص موازنة لرعاية شؤون الصحة النفسية, و20 في المئة تنفق عليها أقل من 1 في المئة من مجمل موزانتها الصحية. وظاهرة الغموض والعار التي تحيط باعتلال الصحة النفسية واسعة الانتشار. فعلى رغم وجود علاجات ضد الاضطرابات النفسية، هناك من يعتقد أن علاجها متعذّر وأن المصابين بها أشخاص ذوو مستوى ذكاء متدنٍ، لا يستطيعون اتخاذ القرارات، وتصعب مخالطتهم. وقد تؤدي ظاهرة العار إلى سوء معاملة المرضى النفسيين أو نبذهم أو عزلهم أو استبعادهم من الرعاية والدعم الصحيين... إلاّ أن عدداً من البلدان يعمل حالياً على تحديث سياساته وخدماته وقوانينه الصحية. فقد انضمّت السلطات الصحية، في 30 بلداً، إلى مشروع جديد لمنظمة الصحة العالمية، يرمي إلى رفع مستوى تلبية حاجات المرضى النفسيين وتحسين الخدمات من خلال خطط جديدة ومراجع، وضعتها المنظّمة، وتقديم الدعم والتدريب اللازمين.