يعرف الذين قرأوا آراء نجيب محفوظ وأحاديثه إلحاحه على أن تنال مجموعات الإسلام السياسي حقها في الوجود الشرعي، فقد كان بحكم ليبراليته لا يقبل تجزؤ الديموقراطية وانطباقها على فصيل أو فصائل واستبعاد غيرها منها، فحق الوجود السياسي ملك لجميع القوى بلا استثناء، لم يتخّل الليبرالي الوفدي عن الإيمان به. وكان محفوظ - إلى جانب ذلك - متعاطفاً مع الشباب المتطرف دينياً، ويراه أقرب إلى الضحية حتى لو قام بدور الجلاد. ولذلك ظل يؤكد، في حواراته الصريحة التي أصدرها رجاء النقاش كتاباً بعنوان"نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته"سنة 1998، أن ظاهرة التطرف الديني التي ظهرت بعد ثورة تموز يوليو 1952، وبلغت ذروتها في فترة السبعينات، لها أسبابها. وفي رأيه أن أهم هذه الأسباب هي حالة الفساد والتضخم والغلاء التي عاشها المصريون في تلك الفترة. ومن الطبيعي أن يكون رد الفعل للتطرف في الفساد هو التطرف السياسي والديني. وكان الفساد هو التربة الخصبة التي أنبتت الجماعات المتطرفة. وساعد على بروز هذا التيار انضمام عدد كبير من الناس إلى تلك الجماعات المتطرفة، ليس اقتناعاً بمبادئها، ولكن نتيجة لحالة اليأس والإحباط التي يعيشونها بسبب الفساد والتضخم والغلاء. ولذلك أرى - يقول محفوظ - أنه عندما تتحسن الحالة الاقتصادية وتتوافر فرص العمل للشباب، مما يتيح لهم العثور على أماكن للسكن وفرص للزواج وتكوين أسرة، فإن 60 إلى 70 في المئة منهم سيتخلون عن تيار التطرف الذي لن يظل متمسكاً به سوى المتطرفين فعلاً، وهم نسبة ضئيلة. أما السبب الثاني لشيوع التطرف، بعد أجواء الفساد، في ما يراه محفوظ، فهو التعذيب الذي تعرض له"الإخوان المسلمون"في سجون عبدالناصر، مما أدى إلى تبني الجماعة مبدأ"العنف مقابل العنف". لقد قام"الإخوان المسلمون"قبل ثورة تموز بعمليات عنف واغتيالات. وأحد أجهزة الإخوان هو"الجهاز السري"الذي نفّذ جرائم معروفة، إلا أن مؤسس جماعة"الإخوان المسلمين"الشيخ حسن البنا كان حقيقة ضد العنف، وهذا للحق والإنصاف في ما يقول محفوظ، مختلف عن كثيرين غيره في هذا الرأي. لكنه - وهو الأهم - يمضي مؤكداً أنه بعد الصدام بين عبدالناصر والإخوان المسلمين، والمذبحة التي تعرضوا لها، ووضعهم في السجون، اشتد تطرف الجماعة، واعتنق أعضاؤها أفكاراً دموية، كانت هي السبب الرئيس في نشأة الجماعات المتطرفة الأخرى التي خرجت من عباءة الإخوان. وعندما جاء أنور السادات وأخرج الإخوان المسلمين من السجون، وشجّعهم على النهوض من جديد بهدف ضرب الناصريين والشيوعيين، بدأ الإخوان يسيطرون على الجامعات حتى اشتد نفوذهم واتسع، وفي النهاية قتلوا السادات نفسه لأنهم حكموا على تصرفاته من وجهة نظرهم وليس من وجهة نظره هو... والسادات في هذا الموقف أشبه بمن لعب بالنار فأحرقته، فقد كان يظن أن إحسانه إلى الإخوان سيُقابل بالإحسان، ولكنه قوبل بالقتل. ويضيف محفوظ إلى الملاحظة السابقة ملاحظة أن القاعدة العريضة للجماعات المتطرفة كانت من بين الشباب المستنير، فغالبيتهم من خريجي الجامعات، وبعضهم وصل إلى أعلى درجات العلم، على عكس الطرق الصوفية التي نجد مريديها من عامة الناس البسطاء، ونادراً ما نجد منهم أحداً من خريجي الجامعات، ونادراً كذلك ما تخرج هذه الطرق الصوفية على النظام أو تميل إلى التطرف. وعندما اشتدت موجة التطرف في السبعينات، قلت - يؤكد محفوظ - إن الحل الوحيد للقضاء على هذه الظاهرة هو السماح لهؤلاء المتطرفين بتكوين حزب سياسي. فتلك الخطوة ستضعهم في حجمهم الحقيقي، وتجعلهم يخرجون من سراديب الظلام، ومن التنظيمات السرية التي لا يبقى فيها إلا المتطرفون الأصليون، وهؤلاء أمرهم هين. وقد يقال إن المسيحيين سينزعجون من هذا الإجراء، وربما يطالبون هم أيضاً بالسماح لهم بتكوين حزب مسيحي، إلا أنني أعتقد - يؤكد محفوظ - بأن المسيحيين أذكى من ذلك، لأنهم إذا أسسوا حزباً دينياً، فسيجعلون من أنفسهم أقلية مثل اليهود قبل الثورة. والأفضل للمسيحيين أن ينتشروا بين كل الأحزاب فيكون لهم ثقل أكبر وتأثير أقوى، بل ما الذي يمنع القبطي من الدخول في الحزب الديني الإسلامي، فالإسلام عقيدة وتشريع مثل القانون الروماني والفرنسي. فإذا كان الأقباط قد عاشوا تحت هذه القوانين، فلماذا لا يجربون الشريعة الإسلامية، خصوصاً أنهم جزء أساس من الوطنية المصرية، وخيوطهم لا تنفصل عن نسيج المجتمع المصري. وفي حالة السماح بتكوين حزب إسلامي يصبح من واجب الأحزاب الأخرى مثل الوطني والتجمع والوفد أن تعيد تنظيم نفسها وتتحد في حزب واحد، لأنه لا داعي للتفرقة في ما بينها في هذه الحالة. فالهدف واحد وهو إقامة حكومة مدنية دستورها مستمد من روح الشريعة الإسلامية. وأعتقد - يؤكد محفوظ مرة أخرى - بأن هذا الحزب الموحد سوف يحصل على الغالبية، وخاصة أن الحزب الديني ستحدث داخله صراعات وانشقاقات، ونحن نرى أن كل جماعة من الجماعات الدينية تكفّر الأخرى. ومن هنا فلا خوف من إقامة حزب ديني، بل أظن أن السماح لهم بتكوين هذا الحزب هو مأزق يتعرض له المتطرفون، ولم يخطر لهم على بال. ولا يتوقف نجيب محفوظ عند هذا الحد، فيمضى مع معتقداته الليبرالية، مؤكداً أنه ضد أية دولة دينية، ذلك أن الدولة الدينية - في تصوره - تضر أكثر مما تنفع، وتعد قيداً على المجتمع وانشقاقاً عن جادة الصواب، والأفضل لمصر، إقامة حكومة مدنية يتمتع دستورها بروح دينية، ويتأسس على مبادئ الاجتهاد والتوافق مع العصر... وليس في الإسلام ما يدعو إلى قيام رجل دين بشؤون الحكم، بدليل أن أول حاكم بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم هو أبو بكر، وكان اختياره سياسياً وليس دينياً. ولذلك حدث خلاف عند اختيار كل خليفة بعده، بينما لم يحدث خلاف على الصلاة. وبعد تأسيس الدولة الإسلامية وانتشارها جغرافياً، كانت أمورها تُدار من طريق حُكّام عسكريين وليس رجال دين. كانت هذه آراء نجيب محفوظ الذي سبق له التعبير عن المواقف التي تحركها إبداعاً في رواياته المتأخرة التي كانت تعالج ظاهرة البطل الشاب الذي ينقلب إلى التطرف الديني، ويغدو عضواً فاعلاً في التنظيمات السرية الدينية التي تخطط للإرهاب وتتولى تنفيذه. وكان تصوير هذا البطل الشاب يصدر عن منظور، يجعل منه نتيجة لشروط قاهرة. ولذلك ظل إبداع محفوظ الروائي، منذ الثمانينات وطوال التسعينات، أقرب إلى التعاطف مع شباب التطرف الديني، وتفهم العوامل التي قادتهم إلى ما انتهوا إليه. ولم يكن من الغريب أن يقول محفوظ ما قال لرجاء النقاش في الكتاب الذي جمع حواراتهما. فقد ظل محفوظ مؤمناً بحق مجموعات الإسلام السياسي في الوجود الشرعي، وفي إقامة حزب سياسي لها. ولم تدفعه إلى تغيير رأيه الجرائم الفظيعة التي ظلت ترتكبها الفصائل المتطرفة من هذه المجموعات. ولذلك حمد له البيان الذي أصدرته"الجماعة الإسلامية"- بعد موته - موقفه، وأشاد به، ودان البيان بكلماته أفراد الجماعة الذين اعتدوا على المفكر الوحيد الذي كان يطالب بالوجود الشرعي للجماعات الدينية. وكان ذلك في سياق الموت الذي يبطل الخصومات، ويستدعي الدعاء بالرحمة والغفران، ولا يستبقي إلا محاسن الموتى، بحسب ما أمرنا به أدب الإسلام:"اذكروا محاسن موتاكم". ولكن مع ذلك، وضد ذلك كله، خرجت مجموعات متطرفة دينية، بعد وفاة نجيب محفوظ، لم تمنعها حرمة الموت من معاودة تكفير الرجل، والتذكير بجريمته الكبرى، في تقدير المتطرفين، وهي"أولاد حارتنا"وغيرها من الأدب"العلماني؟!"الذي يدعو إلى الكفر. وقد تابعت البيانات التي صدرت في هذا المعنى، وتوزعت على مواقع الإنترنت، ولم تنطوِ على معنى الرحمة والدعاء للميت بالرحمة والمغفرة، كما انطوى بيان"الجماعة الإسلامية"الذي ناقشته في الأربعاء الماضي. ولا يزال أقسى هذه البيانات، في تقديري، ما صدر عن"جماعة أنصار الشورى والسلام"في الكويت. وهو بيان قيل لي - من عدد من أصدقائي في الكويت - إن الجرائد الكويتية رفضت نشره، فقررت الجماعة نشره على هيئة إعلان كبير، ضخم الأحرف، مدفوع الأجر. ويستنكر البيان موقف شيخ الأزهر ومفتي مصر اللذين صليا على جثمان نجيب محفوظ، ودعيا له بالرحمة والمغفرة، فيرد عليهما البيان بهجوم عنوانه"اتقوا الله". ويعقب العنوان ما نصه:"إن ما تناقلته أجهزة الإعلام العربية وغيرها من دعائكم بالرحمة والغفران للروائي المصري نجيب محفوظ الذي ألّف رواية"أولاد حارتنا"وفيها هجوم على الله تعالى، وبسببها حصل على جائزة نوبل، وإنه لأمر عجيب ومحيّر، فكيف بالأمس تمنعون روايته ثم تصلّون عليه اليوم وتدعون له بالرحمة والمغفرة؟". ويضيف البيان، بأحرف أقل حجماً، ما نصه:"إن جماعة أنصار الشورى والسلام أرسلت رسالة في تاريخ 7/8/2006 إلى حفيد رسول الله سماحة السيد حسن نصر الله؟! تقول فيها: اتق الله تعالى. وفعلاً استجاب سماحته لرسالتنا، واعترف بخطئه، وقال في تصريح للصحافة: لو علمت بالرد الإسرائيلي الوحشي لما أمرت بأسر الجنديين الإسرائيليين. حفظ الله أمتنا الإسلامية من كل مكروه". والحق أن أول ما لفت انتباهي في البيان هو هذه القسوة وروح العنف والثأر التي لا يعرفها الإسلام. وهَب نجيب محفوظ خرج على الإسلام، وهذا لم يحدث، في"أولاد حارتنا"، ألا يحسب له ما كتب من روايات أخرى، وما دافع به عن حق الوجود الشرعي للتيار الإسلامي؟ ودع عنك حرمة الموت التي تدعو إلى المغفرة ورحمة الله التي تسع كل مخلوقاته. أما مسألة الإيمان والكفر فلا يعلمها إلا الله البصير بالسرائر والعارف بأسرار القلوب وليس الأمين العام لجماعة"أنصار الشورى والسلام"أو غيرها من الجماعات، وكان ذلك هو المنطلق الذي دفع المفتي وشيخ الأزهر إلى الصلاة على جثمان نجيب محفوظ والدعاء له. وقد استرعى انتباهي في الإعلان اللافت للنظر - وقد طالعته في جريدة"السياسة"الكويتية الصادرة في تاريخ 9 أيلول سبتمبر الماضي - عدم القدرة على الإبانة اللغوية الفصيحة، خصوصاً حين ترتبك الجمل ما بين المسند والمسند اليه، أو يخاطب البيان المفتي وشيخ الأزهر، وهما مثنى، بصيغة الجمع. ولا أحسبها على سبيل التفخيم لمن يقع عليه الوعيد بعبارة"اتقوا الله". أما الإشارة إلى السيد حسن نصر الله، وأنه استجاب إلى تحذير أو وعيد مشابه، فحقيقتها عند من اتجهت إليه. وتبقى صورة الأمين العام للجماعة التي تتصدر الركن الأيسر من المستطيل الذي يضم الإعلان، صورة لا معنى لها لمن يريد توصيل كلمة حق وليس نشر إعلان لا يخلو من معنى الدعاية لشخص. وقد سألت أصدقائي من الكويتيين، في سفرتي الأخيرة إليها عن هذه الجماعة وأهم مبادئها، فأخبرني عدد منهم، والعهدة عليهم، أنها جماعة متطرفة، ضد الأنظمة الديموقراطية الحديثة، ومع إلغاء مجلس الأمة الذي لا بد من أن يستبدل به مجلس شورى على الطريقة الإسلامية الأولى، في دولة دينية لا مدنية، تقوم على أحادية الاتجاه والتأويل الديني، وليس التعدد والتنوع الحزبي... إلخ. وأعترف أن التداعيات التي انثالت على ذهني، وأنا أتأمل مغزى كلمات الإعلان الذي نشرته"جماعة أنصار الشورى والسلام"، دفعتني إلى تذكر سماحة رجال الدين الذين يفخر بهم تاريخنا: محمد فريد وجدي رئيس تحرير مجلة"الأزهر"الذي ردّ على إسماعيل أدهم الذي نشر مقالاً بعنوان"لماذا أنا ملحد؟"، وكانت لحمة الرد وسداه بالتي هي أحسن، وعدم الغلظة أو العنف في الإشارة إلى إسماعيل أدهم، بل الرد عليه في نبرة تقدير تكسب القلوب. كما تذكرت الشاعر حافظ إبراهيم، شاعر الإمام محمد عبده مفتي الديار المصرية، حين توفي شبلي الشميل، داعية نظرية التطور لداروين، ولم تمنع دعوته حافظ إبراهيم من الإسهام في الحفل الذي أقيم لرثائه، غير خائف من الذين اتهموا الرجل بالإلحاد، راداً على كل من كان يمكن أن يحاسبه على رثاء رجل"لا يهتدي بهدي الكتاب"قائلاً إنه يرثي الصديق الوفي والمفكر الذي: أطلق الفكر في العوالم حراً/ مستطيراً بزيغ هتك الحجاب يقرع النجم سائلاً ثم يرت/ د إلى الأرض باحثاً عن صواب رام إدراك كنه ما أعجز النا/ س قديماً فلم يفز بالطلاب لقي الله ربه فاتركوا المر/ ء لديّانه فسيح الرحاب وعبارة"اتركوا المرء لديّانه فسيح الرحاب"عبارة بالغة الدلالة في الإشارة إلى رحمة الله التي تسع كل شيء، مؤكدة أن العدالة الإلهية هي ما سيلقاه البشر الفانون من خالقهم"فسيح الرحاب"الذي ينبغي أن ندع له وحده الحكم حتى على الذين يحكم عليهم البعض - حقاً أو باطلاً وهو الأغلب - بالكفر. ولا ننس أن من كفّر مسلماً فقد باء بها، فيما يؤكد الحديث النبوي الشهير.