رصدت جريدة "راديكال" التركية نشر 369 رواية تركية خلال السنة 2006، واصفة هذا الرقم بالقياسي المطلق. وإذا كان من المبكر الحكم على القيمة الإبداعية لهذه الروايات، فالرقم بحد ذاته مفاجأة ايجابية، خصوصاً إذا عرفنا أن بين الكتب العشرة الأكثر مبيعاً في المكتبات التركية لذلك العام خمس روايات تركية. ومن جهة أخرى نلاحظ أن عدد الروايات الأولى لكتابها في خط متصاعد في السنوات الأخيرة، ما قد يعبّر عن ميل عام في ازدهار جنس الرواية في الأدب التركي. فقد بلغ عدد الروايات الأولى لكتاب ينشرون للمرة الأولى 137 في العام 2004، و132 في العام 2005، وارتفع هذا العدد إلى 174 في 2006. لكن تقرير الجريدة المذكورة ينبهنا أيضاً إلى ضرورة عدم الإفراط في التفاؤل، نظراً إلى انخفاض عدد النسخ المطبوعة في الطبعة الأولى لمعظم الروايات وانخفاض مقابل في عدد القراء، الأمر الذي يراقبه بقلق قطاع النشر في تركيا. لعل هذا القلق من تراجع القراءة، هو ما دفع إحدى بلديات اسطنبول إلى تنظيم"مهرجان القراءة"على مدى ثلاثة أيام في الثلث الأخير من شهر كانون الأول ديسمبر الفائت، وبالتعاون مع عدد من المكتبات ودور النشر. وقامت فكرة المهرجان على نصب فانوسين ضخمين شكلهما مستوحى من برج"غلاطة"، بطول 6,5 متر وعرض 2,5 م في ساحتين عامتين في قلب اسطنبول، يمكن من يشاء أن يستخدمهما"خلوة"للقراءة. ومن باب تشجيع عامة الشعب على استخدامهما، قرأ رئيس بلدية"غلاطة"تحت أحد الفانوسين في اليوم الأول، الأعمال الشعرية الكاملة لأورهان ولي رائد قصيدة النثر في الشعر التركي الحديث. واستفادت الكاتبة مرال تامر من الفانوس الآخر لقراءة كتاب"اسطنبول، المدينة والذكريات"لأورهان باموك. الظاهرة الأخرى اللافتة في مجال التشجيع على القراءة هي ظاهرة"كتب الشارع"التي قامت بتنظيمها جريدة"الراديكال"نفسها، مستلهمة إياها من ظاهرة أوروبية مشابهة. تقوم فكرة"كتب الشارع"على وضع صناديق في مواقع مختلفة في عدد من المدن، يستطيع الراغب أن يأخذ منها أحد الكتب الموجودة، فيقرؤه في بيته مثلاً ثم يعيده إلى أي صندوق من تلك الصناديق المنتشرة. مصدر الكتب هو تبرعات"عينية"من أفراد أو مؤسسات أو دور نشر. وتجد على شبكة الإنترنت موقعاً يحدد لك خريطة صناديق الكتب، وعناوين الكتب الموجودة في كل صندوق في اللحظة التي تدخل فيها الموقع. ويطلب ممن يستعير كتاباً من أحد الصناديق أن يسجل اسمه وعنوان الكتاب الذي استعاره، ما يتيح لمتصفح الموقع معرفة مسار الكتاب خلال فترة وجوده في التداول، أي معرفة الأشخاص الذين تناوبوا على قراءته بمن فيهم من يقرؤه الآن. كذلك يوفر الموقع مساحات لكتابة التعليقات حول الكتب المقروءة. ما يزيد من قيمة هذه الظاهرة، هو أن الصناديق منتشرة حتى في مدن بعيدة عن المركز كديار بكر، ولا يقتصر انتشارها على المدن الكبرى كاسطنبول وأنقرة. يفيدنا موقع الانترنت المذكور بأن عدد الكتب رهن التداول حالياً يبلغ 8200 كتاب، وعدد المشتركين في الموقع 5563. الكتب"الأكثر مبيعاً" تقوم جريدة"راديكال"بنشر قائمة أسبوعية للكتب الأكثر مبيعاً بالانطلاق من المعلومات التي تتلقاها من معظم دور النشر وأهم المكتبات في تركيا. وتعد قائمتها السنوية وفقاً لعدد الأسابيع التي يحتل فيها كل كتاب رأس قائمة المبيعات الأسبوعية. لنلق الآن نظرة سريعة على قائمة الكتب العشرة الأولى الأكثر مبيعاً للعام 2006: 1-"الأب وابن الزنى"، رواية للكاتبة"أليف شفق": تتناول الرواية المشكلة الأرمنية من خلال حياة عائلتين تركية وأرمنية والعلاقات بين أفرادهما، إضافة إلى إثارتها"تابوهات"من نوع الإيمان الديني والعلاقة بالمحارم. لاقت الرواية اهتماماً واسعاً، زاد منه رفع دعوى قضائية على الكاتبة بسبب محتواها. 2-"في مواجهة تاريخنا"، للكاتب"أمرة كونغر": يتضمن الكتاب إعادة نظر في عدد من الوقائع التاريخية التي كرست كبديهيات، فأعاد قراءة أحداث من نوع اعتناق الأتراك للإسلام وأسباب انهيار الإمبراطورية العثمانية ومدى ديموقراطية عدنان مندريس أو وحدانية القيادة لدى مصطفى كمال... 3-"لطيفة هانم"، للكاتبة"إيبك تشالشلر": لطيفة هانم أو السيدة لطيفة هي إحدى زوجات مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس الجمهورية التركية. والكتاب يتراوح بين السيرة التاريخية والرواية، ويغطي فترة العامين ونصف العام التي استغرقتها علاقة الزواج بين أتاتورك ولطيفة هانم، ما أتاح للكاتبة إلقاء الضوء على الفترة المبكرة من تاريخ الجمهورية التركية. من أهم ما يميز الكتاب أن الكاتبة أسندت كل معلومة من معلوماتها إلى مصدرين على الأقل. لم يشفع لها هذا التدقيق أمام المحكمة التي حكمت عليها بالسجن أربع سنوات ونصف السنة، بسبب ذكرها لحادثة تتعلق بأتاتورك، ثم تمت تبرئتها قبل تنفيذ الحكم. 4-"بيت ليلى"، رواية للموسيقي والكاتب"زولفو ليفانيلي". 5-"كوكولوجي"أو"اعرف من تكون"لليابانيين"إيسامو سائيتو"و"تاداهيكو ناغاو": موضوع الكتاب هو لعبة اكتشاف الذات من خلال الإجابة عن أسئلة محددة. حقق الكتاب مبيعات مذهلة في اليابان والولايات المتحدة وترجم إلى خمس عشرة لغة. 6-"هؤلاء الأتراك المجانين"، للكاتب"تورغوت أوزاكمان": نشر الكتاب في العام 2005 واحتل رأس قائمة الأكثر مبيعاً في العام المذكور، ثم احتل المركز السادس في 2006. وهو يتناول تاريخ الحرب الوطنية بأسلوب شيق، ويتضمن الكثير من حكايات شخصية لأفراد في إطار وقائع تلك الحرب. 7-"الأفندي - الجزء الثاني"، للكاتب الصحافي"سونر يالتشن": العنوان الفرعي هو"السر الكبير للمسلمين البيض". وتعبير"البيض"قصد به الكاتب الكناية عن فكرة التمييز والانعزال معاً فيما يشبه الفصل العرقي. كان العنوان الفرعي للجزء الأول من الكتاب"السر الكبير للأتراك البيض"والمقصودون هم الأتراك من أصل يهودي أو ما يسمى في التاريخ العثماني بيهود الدونمة. لاقى الكتاب بجزئيه رواجاً منقطع النظير بسبب ما يتضمنه من معلومات حول شخصيات وعائلات تركية شهيرة في ميادين السياسة والثقافة والمال والأعمال. 8-"غازي باشا"للكاتب"أتيلا إلهان": رواية تاريخية تتناول حياة مصطفى كمال في سياق الحرب الوطنية وقيام الجمهورية التركية. 9- "إعادة اكتشاف الدولة العثمانية"للكاتب"إلبر أورتايلي". 10-"وثالثهما الشيطان"، رواية للكاتبة"هاندة آلتايلي". ما يلفت في القائمة أعلاه أنها تتضمن كتاباً وحيداً مترجماً عن لغة أخرى، في مقابل تسعة كتب تركية لكتاب وكاتبات أتراك. وتتوزع القائمة بصورة متساوية تقريباً بين الروايات وكتب التاريخ، التاريخ العثماني - التركي حصراً، ما قد يشكل مؤشراً إلى نوع اهتمامات القارئ التركي اليوم. هذا الاهتمام بالتاريخ، والذي يظهر أيضاً في عدد من الروايات الأولى لكتابها، يربطه تقرير جريدة"الراديكال"بالصعود الملحوظ للتيار القومي في البلاد اخيراً، الأمر الذي لاحظنا تجلياته في عدد من أحداث العنف في الجامعات التركية خلال السنة المنقضية، حيث كثر ظهور المجموعات القومية المتشددة بين الطلاب، مجموعات تلجأ إلى العنف في مواجهة خصومها الفكريين والسياسيين. كذلك رصد التقرير عدداً من الروايات ذات التوجه الإسلامي، ما يمكن إدراجه في سياق ثقافي أوسع إذا لاحظنا أن ألبوماً غنائياً يتكون من أغنيات دينية للمغني"فتح الله غولن"احتل في النصف الثاني من شهر كانون الأول أحد المراكز المتقدمة بين"الأكثر مبيعاً". من بين الروايات الصادرة في العام 2006، ثمة رواية بعنوان"حبات السبحة"للكاتب الأرمني"مكرديج مارغوسيان"تتحدث عن مأساة الهجرة القسرية التي تعرض لها الأرمن في تركيا في العقد الثاني من القرن العشرين. وهي مستمدة من السيرة الذاتية للكاتب الذي هاجر في طفولته من موطنه الأصلي قرب"ديار بكر"إلى مدينة اسطنبول. صدرت الرواية عن دار النشر"آراس"المتخصصة بنشر الأدبيات الأرمنية. حاولت في السطور السابقة أن ألقي ضوءاً سريعاً على بعض جوانب المشهد الثقافي التركي في نهاية عام. إنها لوحة مملوءة بالمتناقضات حيث يحاكم عدد من الكتّاب بسبب إنتاجهم الإبداعي، في الوقت الذي تصدر فيه روايات تتناول محرمات تقليدية كمأساة الأرمن، وحيث يشكو الناشرون من انخفاض عدد القراء، في الوقت الذي تباع روايات بعض الكتاب بمئات آلاف النسخ، ويحتل ألبوم غنائي ديني رأس قائمة المبيعات، في الوقت الذي تصدر ترجمة جديدة لكتاب تروتسكي الشهير"الثورة المغدورة". قد يمنحنا هذا المشهد الثقافي تفسيراً جزئياً لفوز أورهان باموك بجائزة نوبل للآداب لهذا العام، أو قد تزيد التفسير تعقيداً. * كاتب سوري متخصص في الادب التركي