طبقا لاحصاءات المصادر الرسمية العراقية ومصادر قوات التحالف يسقط كل يوم ما معدله 100 عراقي صرعى الحرب الاهلية الطائفية الدائرة في القسم العربي من العراق. وهؤلاء الضحايا هم في غالبيتهم العظمى مدنيون ونسبة كبيرة منهم اطفال ونساء وشيوخ، كما تؤكد الاحصاءات عينها. هذه المجزرة اليومية بين عرب العراق لا تستفز مشاعر بعض الساسة العراقيين العرب ولا تستنفر قدراتهم الكلامية بقدر ما تستفزهم وتستنفرهم اجراءات ادارية يتخذها الاكراد العراقيون في مناطقهم. بل ان الكثير من هؤلاء الساسة لا يتردد عن تبرير اعمال التقتيل الجماعي ولا يتوانى عن تمجيدها باعتبارها اعمال"مقاومة"او"دفاع عن النفس"ضد القوى الطائفية المقابلة المتورطة هي الاخرى في هذه الحرب الاهلية. تتفجر السيارات المفخخة والعبوات الناسفة في اسواق المدن وعند المدارس والمستشفيات والجوامع والكنائس ومراكز الشرطة ودوريات الجيش ومحطات الكهرباء والغاز والبترول، وتتساقط قذائف الهاون والكاتيوشا على المنازل والدوائر الحكومية، ويُختطف الناس ويُقتلون على الهوية، فيتواطأ السياسيون العراقيون، العرب تحديدا من الشيعة والسنة على السواء، بالصمت مع الفاعلين ويتواصل حمام الدم في غياب اي ادانة حقيقية لجرائمهم او تنصل واضح منها. لكن هؤلاء السياسيين يقيمون الدنيا ولا يقعدونها عند الاعلان عن ان رئيس اقليم كردستان، مسعود بارزاني، أمر بالا يُرفع اي علم الى جانب علم الاقليم على مباني الدوائر الحكومية لحين اقرار السلطة المركزية في بغداد علما جديدا للدولة العراقية، وبان يُرفع في المناسبات الرسمية العلم العراقي الذي اعتمد في العهد الجمهوري الاول 1958-1963، مع ان هؤلاء السياسيين يعرفون حق المعرفة ان قرار بارزاني لا يأتي ببدعة وانما يكرّس امرا واقعا قائما منذ 15 عاما بالتمام والكمال. عندما فشلت المفاوضات بين حكومة صدام و"الجبهة الكردستانية"في مثل هذه الايام من العام 1991 أمر صدام بسحب كل وجود، مدني او عسكري، للدولة العراقية من معظم مناطق اقليم كردستان التي خضعت لحصار محكم. وقد انزل مدراء الدوائر المدنية وقادة القطعات العسكرية علم الدولة من مباني دوائرهم ومقار قطعاتهم وطووه واخذوه معهم الى بغداد. كان صدام يظن ان الحصار سيُرغم قادة الجبهة الكردستانية على الاستسلام له والقبول بشروطه ومواصفاته للحكم الذاتي، لكن الجبهة عادت الى جماهيرها التي قبلت التحدي وطلبت ان تدير الجبهة بنفسها الاقليم مستفيدة من الحماية الدولية الجزئية التي توفرت في ظروف حرب الخليج الثانية. ومنذ ذلك الوقت لم يتجرأ أحد في كردستان على رفع العلم الذي كان الاكراد يرونه رمزا لابادتهم الجماعية بالغازات السامة وحملات الانفال. وقد زاد صدام من كراهية الاكراد، والكثير من العرب ايضا، لذلك العلم بكتابة كلمتي"الله اكبر"عليه بخط يده، وبدمه كما قيل. ذلك العلم لم يكن ابدا علما عراقيا. وهو ليس علم اي دولة وجدت على وجه البسيطة... انه علم دولة مفترضة، كانت ستُؤسس لكنها لم تقم ابداً. انه علم الدولة الاتحادية التي كان من المفترض ان تضم العراق وسورية ومصر بعد ان نجح حزب البعث بزعامة ميشيل عفلق في قلب نظامي الحكم في بغداد ودمشق في فبراير شباط ومارس اذار 1963، واعلن انه يريد ان يعيد الى الوجود"الجمهورية العربية المتحدة"بثلاثة اقاليم هذه المرة، لكن حزب البعث عينه، كما تؤكد الوثائق المصرية المنشورة عن"مباحثات الوحدة"ومذكرات قادة بعثيين سابقين شاركوا في المباحثات، هو الذي حال دون قيام الوحدة ودون تشكيل الدولة الموحدة بعدما ادرك ان قيادتها ستؤول الى عبد الناصر. ذلك العلم صُمم يومها بثلاث نجمات ترمز الى الدول الثلاث التي كانت ستضمها الدولة الاتحادية. وبينما تخلت القاهرة ودمشق لاحقا عن العلم الذي رفع على المباني سلفا اثناء المباحثات التي ما لبثت ان انهارت ، ظلت بغداد التي تداول الناصريون والبعثيون منذئذ حكمها طيلة اربعين عاما متمسكة بالعلم الذي لم يُشرّع وفقا لدستور عراقي دائم ولم يقرره برلمان منتخب. بعد سقوط نظام صدام حسين العام 2003 واجه النظام الذي خلفه - خصوصا عند الاعلان عن استعادة السيادة في حزيران يونيو 2004 - مأزقا يتعلق بالرموز الوطنية للدولة الجديدة العلم والشعار والنشيد الوطني. وبينما نجح المثقفون والفنانون في فرض امر واقع في ما يتعلق بالنشيد باعتماد النشيد الوطني القديم"موطني"في افتتاح المناسبات والفعاليات الثقافية والفنية، اختلف السياسيون على فكرة العودة الى شعار وعلم جمهورية 14 تموز يوليو 1958 التي تبناها طيف واسع من الوطنيين ضم الشيوعيين والوطنيين الديمقراطيين والقاسميين وجماعات ليبرالية اخرى بتأييد من الاكراد الذين بادروا من طرفهم الى رفع علم العهد الجمهوري الاول باعتباره، كما الشعار، يحمل رمزا صريحا لهم بوصفهم القومية الثانية في العراق. هي في الواقع ليست قضية علم او سيادة ولا مسألة نزعة انفصالية للاكراد، فلا يحتاج المراقب الى الكثير من الفطنة ليدرك ان اغلب المنخرطين في هذه"الهمروجة"المنددة ببارزاني وقراره هم من البعثيين المتدرعين بعباءة"هيئة علماء المسلمين"او بيافطة"جبهة التوافق"او"جبهة الحوار الوطني". فمنذ اكثر من عام أثيرت ضجة حول العلم شبيهة بالضجة الحالية عندما كُشف عن تصميم لعلم عراقي جديد أعده الفنان والمهندس العراقي البارع رفعت الجادرجي مساحة بيضاء ترمز الى السلام الذي افتقده العراق طويلا وخطان ازرقان يرمزان لمصدر الحياة والحضارة في بلاد الرافدين: دجلة والفرات ، وزُعم يومها ان التصميم المقترح يذّكر بعلم اسرائيل!. لم يكن ذلك خيالا مريضا مثلما ضجة اليوم ليست نتاح حميّة وطنية... انها قضية دفاع للبعثيين عن آخر رمز تبقى لهم في العراق بعد فرار صدام من بغداد ثم القاء القبض عليه ومحاكمته، وانهيار تمثاله العملاق في ساحة الفردوس في التاسع من ابريل نيسان 2003... وهي قضية دفاع عن آخر أمل بالعودة الى حكم العراق. * صحافي وكاتب عراقي.