لم يكن الممثل فؤاد المهندس يفتعل أو يتسلى عندما أطلق صرخة مدوية في مقابلة تلفزيونية قبل سنتين قائلاً:"أين الذين كانوا يملأون منزلي عندما كنت قوياً؟". انها مشكلة. مشكلة الفنان الذي ينتقل من حال النجومية الى حال... المعاش على ما يقول المصريون. وفي الوقت نفسه هي مشكلة المنتفعين الذين يربطون أنفسهم بنجم يساعدهم ويقدّم لهم الفرص وعندما"يكبرون"أو يتنبت لهم أجنحة يغادرون الى غير رجعة... حتى ولو على سبيل سؤال الخاطر أو الاطمئنان! مناسبة هذا الكلام، خبر من القاهرة يقول بتعرّض منزل الفنان لحريق نجا منه بأعجوبة قبل أسابيع عدة. ثم تجدد الخطر قبل أيام حين انهار سقف غرفة النوم أثناء وجوده في الفراش، لكن العناية الالهية انقذته مرة أخرى. فؤاد المهندس وحيد في المنزل. الأضواء التي كانت لا تنطفئ، والناس الذين كانوا هنا واليوم قد هربوا، أكثر ما يعزّ عليه وهو يواجه الأيام. زوجته السابقة شويكار تأتيه من وقت الى آخر تعيد اليه شيئاً من الدفء الانساني. ابنه محمد يحيطه بعناية مناسبة. زوجة ابنه اللائقة تعمل على ترتيب شؤون ذكرياته وصوره وجوائزه في شكل جيد. وفؤاد المهندس المصاب في صحته، يصاب في غياب واحد من أعز اصدقائه ورفاق دربه: عبدالمنعم مدبولي. والألم النفسي أكبر فأكبر... بين حريق مادي أخذ في طريقه جزءاً من ذكريات فؤاد المهندس في منزله وبعض أوراقه القديمة التي تروي حكايات الألق، وحريق معنوي يأتي من اعتلال الصحة واختلال الميزان الانساني الذي يربط الناس ببعضهم البعض، يعيش المهندس مبتعداً قدر الاستطاعة من الاعلام والمقابلات وحتى من الذكريات التي تحوّلت الى مادة قهر اكثر منها مادة فرح. يبدو يائساً. يبدو بائساً، ليس بالمعنى المادي فالرجل ادّخر من المال ما يكفي لتكون بقية حياته عزيزة، بل بالمعنى الأقرب الى النفس، الى الداخل. فما الذي يعيد شيئاً من الحياة اليه؟ كثر هم الفنانون الذين يصلون الى هذا العمر المتقدم فتنطفئ في وجوههم القدرة على الصمود. لكن أيضاً هناك فنانون يذهب بهم العمر بعيداً ويحتفظون بالرغبة في أن يكونوا حاضرين. بعضهم يقنط من اخلاق الآخرين الذين كان يتوقع أنهم الى جانبه. وبعضهم يبتكر الأمل عبر بعض القليل من الأوفياء. المسألة نسبية، وتتعلق بقدرة هذا أو ذاك على التحمل وعلى التكيف وعلى صناعة الحياة من حوله. أما فؤاد المهندس، فنجد في صوته حزناً لا نهائياً، وقوة تنهار رويداً رويداً. ومع رحيل كل زميل أو رفيق أو صديق يشعر بأن الرحلة شارفت على الانتهاء، وأن الابواب تغلق شيئاً فشيئاً، ولا يستطيع تناسي ذلك! هل من دور يمكن أن تلعبه وزارات الثقافة في البلاد العربية في هذا المجال، على اعتبار أن البلاد الغربية تجاوزت هذا النوع من المشكلات واخترعت له حلولاً انسانية لائقة وحضارية برعاية الانسان، كل انسان، فكيف اذا كان فناناً وصاحب تاريخ مجيد؟ هل من دور يستطيع أن يلعبه محيط الفنان المصاب في صحته وفي نفسه، فيمنع عنه النظرة السوداء الى المجتمع، وحتى الى نفسه أحياناً، وأقصد هنا العائلة بما هي مكوّن انساني شديد الترابط؟ حال الفنان فؤاد المهندس هي حال مجتمع فني عربي كامل يبحث عن مكانه فيجد مزيجاً من الأمان والسراب معاً!