لا يشغل بال أي اقتصادي جاد، ولد أو عاش أو حتى زار بلداً نامياً يهمه شأنه، موضوع كموضوع التنمية. ولا يشغل بال أي وزير أو قائد إداري آخر تولى أو يتولى قيادة مرفق حكومي مهم في بلد نام موضوع كموضوع التنمية. يقول الدكتور غازي القصيبي، الذي كان من قدره أن يقود بناء مرافق مهمة من مرافق التنمية كتوفير الكهرباء وتأسيس"سابك"، ومن قدره في ما بعد أن يحاول تقليص الاستقدام لخلق فرص أفضل لتوظيف السعوديين، في كتابه، الذي يستحق أن يقرأه الاقتصاديون المهنيون،"التنمية... الأسئلة الكبرى":"إن التنمية في محصلتها النهائية وسيلة وليست غاية، هي وسيلة نحو الارتفاع لمستوى الإنسان الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي. وما دام هذا هو هدف التنمية الحقيقية، فكل ما يؤدي، على أي نحو، إلى الإضرار بالإنسان، جسداً أو روحاً، لا بد من أن يكون عملاً معادياً للتنمية حتى لو اُرتكب باسمها". ولولا أن التنمية ممكنة، لما أضاع وقته في الحديث عنها أمثال آدم سميث وجون مارشال. ولا بد هنا من ذكر شيء عن جون مارشال، لأن كل علماء الاقتصاد الحقيقيين الذين أتوا من بعده من هيكس البريطاني إلى فريدمان وساميسلون الأميركيين في حقيقة الأمر من طلابه، على الأقل من النواحي المنهجية في فروع علم الاقتصاد كافة. كان مارشال أستاذاً للرياضيات في جامعة"اوكسفورد"في أواخر القرن التاسع عشر. وبعد زيارات عدة أخذته إلى أحياء شرق لندن الفقيرة والتي ما كانت تبعد أكثر من بضعة عشر ميلاً من أعلى درجات الثراء في القرن التاسع عشر في غرب لندن، تحول إلى البحث في مأساة أكثر مظاهر البؤس البشري، أي وجود أقصى درجات الفقر إلى جانب أقصى درجات الثراء في مدينة واحدة. والغنى، بحد ذاته، لا يجلب السعادة الفردية. ولكن الفقر الشديد، خصوصاً إذا جاور الثراء الواضح، لا محالة يجلب الشقاء بكل آياته. آدم سميث، الذي يعرفه الجميع، لم يقرأ كتابه المنشور في عام 1776، تحت عنوان طويل ملخصه"أسباب ثروات الأمم"إلا القليلون، وهو في حقيقته كتاب عن"التنمية". آدم سميث جزم بأنه إذا أعطيت المنتجين والعاملين من أرباب عمل وعمال ومستثمرين وحرفيين الحرية الكاملة من دون تدخل حكومي أو غير حكومي، أو ما سماه"الدوافع الخفية"فإن الناس أبخص بمصالحهم، وكمية الإنتاج الكلي ستكون أكثر، وبذلك تتهيأ الفرص للتوفير والاستثمار، فترتفع نسبة دخل الجميع من باعة للسلع أو الخدمات بما في ذلك الخدمات البشرية"أي الأجور"ومستهلكين وهم جميع المواطنين. المشكلة نبعت في ما بعد من اتجاهات عدة، لم تخطر ببال رواد علم الاقتصاد لا في وقت سميث ولا حتى في الثلث الأول من القرن العشرين. وهذه العناصر يمكن إيجاز أهمها فيما يأتي: 1-"تشويه الأسواق"أو فشلها التام، لانعدام أهم عناصرها. كما هو مشهود في أيامنا هذه في"أسواق العمل"اما لعدم قدرة العمال على الانتقال من بلد إلى آخر من دون معوقات أو بسبب تشويه المعروض والمطلوب من الخدمات البشرية، بسبب سهولة وتدني تكاليف المستقدمين بالنسبة إلى دول الخليج العربية على الأقل. 2- إنتاج ما ينفع إنتاجه عدداً محدوداً ويضر إنتاجه بقية الناس، مثل ما يترتب على إنتاجه إلحاق الأضرار بالمستهلكين له، أو تلويث الجو، أو التربة، أو المياه. وهذه أضرار أوضح من أن توضح الآن، غير انها لم تخطر ببال آدم سميث عبقري الاقتصاد في وقت زرع بذور الثورة الصناعية. 3- إساءة إدارة السياسة النقدية: وهذا هو ما حصل في 1929، إذ تناقصت كمية النقود بطريقة خطيرة إلى درجة أن ظن الاقتصادي المميز بحدة ذكائه الرياضي، جون ميرند كينز، أن سبب الكساد هو تدني الإنفاق الحكومي حتى أضحت الشيوعية خطراً حقيقياً يهدد شمال وغرب أوروبا. ولعل بعضنا يذكر انه حتى في الستينات من القرن الماضي، كان الحزب الشيوعي الستاليني في ايطاليا وشقيقه في فرنسا يمثلان قوة سياسية ضخمة، كادت أن تصل بهما إلى تولي السلطة. غير أن أستاذ الاقتصاد في جامعة شيكاغو صحح هذا الفهم الخاطئ لأسباب الكساد في ذلك الوقت، ووثق مع احد طلابه أن"كمية النقد"أو مستوى السيولة تناقصت بين الأعوام 1928-1931 بنحو 30 في المئة. وهذا هو ما سبب تلك الكوارث الاقتصادية في أميركا وأوروبا لأسباب يطول تفسيرها. اما أهم اعداء التنمية في الدول الفقيرة والنامية التي لا تتردد في"طبع"ما تحتاجه من عملة، هي تسامي نسب التضخم لا تدني كمية العملة. 4- البيروقراطية الحكومية: وهذه ألد أعداء التنمية في الدول النامية ولها أضرارها في الدول الصناعية. ولكن أشد درجات أضرارها في الدول النامية، خصوصاً التي يسيطر على شؤونها العسكريون الانقلابيون أو"الحزب الواحد"أياً كانت هويته الأيديولوجية. إذ ثبت أن فساد البيروقراطية السوفياتية لا يقل عن درجة فساد بقية الأنظمة الفاشستية، كما كان يحدث في إيران الشاه أو في عراق صدام حسين. وكما يقول القصيبي في كتابه الآنف الذكر، أن أهم المستفيدين من عملية التنمية"هو الجهاز البيروقراطي الهائل الذي يمد أذرعته، كالاخطبوط، في كل مكان في العالم الثالث..."الصفحات 44-45. والموضوع أطول من أن يأتي ذكر أهم عناصره في هذا المكان، ولكن فنون البيروقراطية -في سيطرتها على المعلومة وتحريفها وتأويلها أو حتى تشويهها بإخفاء ما يخدم مصلحة الموظف إخفاؤه وإبراز ما يخدم مصلحته إبرازه- معروفة لكل من عمل عملاً عاماً أو اضطر إلى التعامل مع البيروقراطية من مواطنين اياً كانت مصادر رزقهم. وكتاب الدكتور القصيبي"التنمية.. الأسئلة الكبرى"الذي صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، في 1992، ولم يعاد طبعه، يستحق القراءة المتأنية من كل متابع لشؤون وشجون دراما التنمية. والله من وراء القصد. * أكاديمي سعودي.