تصورت، سبحان الله، أن الناس، هنا، على أرصفة المدن، في المقاهي والمدارس، في أقسام الشرطة وأحواش البيوت وباحات المصانع والمزارع والملاعب والسجون، في حواري القرى والنجوع والدساكر والكفور والعطوف، تصورتهم، وقد راح كل منهم يشد على يد الآخر معزياً في رحيل الرجل الذي، لفرط المقام، على الأقل، صار على صلة قربى بكل واحد منهم، والذي، في الآخر، عرف العالم بأنقى ما فيهم، وأفضل ما فيهم، وجعلهم جزءاً من ضمير الدنيا الثقافي. تصورت، بخاصة ومصر كانت خرجت قبلها بأيام لكي تودع تمثال رمسيس الثاني في مناسبة انتقاله من ميدان إلى آخر. ولكنها العتمة ولا ريب. لا شيء غيرها. كنا في حيرة ونحن نشيعه إلى مثواه الأخير. في الجنازة الأولى المبكرة في حي الحسين لم يكن الحضور كافياً، ثم قيل، عند الجنازة الرسمية ظهراً، إن الإجراءات الأمنية حول جامع آل رشدان في مدينة نصر منعت الناس، بسبب من حضور رئيس الدولة وكبار المسؤولين، وتبقى الحقيقة أنني رأيت بعيني، كل الأرصفة البعيدة، وقد بدت خاوية. وفي المساء يتصل بي أحد الأصدقاء المهتمين ويقول: "رأيناكم على التلفزيون". وأنا أقول: "آه". ويقول:"أرأيت؟". "شيء غريب يا أخي". "ليس غريباً جداً. انا أريدك أن تلاحظ أن كثيرين من العاديين يظنونه كافراً بسبب فتوى أولاد حارتنا". وأنا شعرت فجأة بأن شعري المنكوش ينتصب في كل اتجاه. صدمتني مثل هذه الحقيقة المحتملة وألجمتني. إن كان ذلك صحيحاً، فلا بد من أننا غارقون تماماً في أوهام لا علاقة لها بواقع الحال. وأفكر الآن بالرجل، وفي ذلك المشوار الطويل الذي هو أقرب إلى أسطورة منه إلى حياة واقعية... ذلك المشوار الذي اكتمل حتى فاض. ولا أجد ما أضيفه. لقد اقتربنا منه وعرفناه في زمن آخر. كان في عز عنفوانه الأدبي وكنا شباباً نتحسس مواقع أقدامنا. لقد حرصت طوال السنوات الماضية على ألا أسرد أي واقعة شخصية جرت في علاقتنا به. إلا أن هناك حالة لا مفر من سردها هنا، لأنها من ناحية لا تحتمل تزكية كبيرة للنفس، ولأنني من ناحية أخرى لا أجد شيئاً آخر أكتبه. ولأنها، أخيراً، واقعة مؤثرة تماماً بالنسبة إلي. وإذا كنت قد كتبت الرواية فلقد كان ذلك بسببها. أنا اعتبرت نفسي منذ بدأت وحتى اللحظة كاتباً للقصة القصيرة ومن عشاقها. وفي الستينات كنت أنشر قصصاً استلفتت انتباه البعض وبينهم هو. كانت القصة الأولى التي أعجبته بشدة اسمها"الطواف"، نشرها عبدالفتاح الجمل في الملحق الأدبي والفني لجريدة الأخبار. بعد ذلك صار ما أكتبه موضع تعليقه في لقاءات ريش مساء كل جمعه. كنت أعمل في ورديات مسائية وليلية بهيئة المواصلات، هكذا كنت انقطع عن حضور اللقاء بين حين وآخر، وسأل هو وعرف طبيعة عملي. كان في طريقه إلى الإسكندرية وطلب من إبراهيم منصور أن يخبرني إن سافرت إلى هناك لا بد من أن أتصل به، بعد يومين سافرت للقائه في مقهى بترو. كان يجلس برفقة توفيق الحكيم مع رجل في حلة بيضاء وعصا عاجية معقوفة كان حكمداراً للعاصمة منذ أيام الملك، وآخرين. قدمني لتوفيق الحكيم قائلاً: "يا توفيق بك، أنت عارف إن فيه جيل جديد من الكتاب، وهذا الجيل فيه كتاب منهم في المقدمة، وآخرين في مقدمة هذه المقدمة، والأخ إبراهيم من هؤلاء". وتوفيق الحكيم صافحني مبتسماً. وأنا شكرت الأستاذ نجيب على مجاملته. والحكيم قال: "لأ. ما دام نجيب بك قال إنك كويس، تبقى فعلاً كويس". ونجيب محفوظ جلس وكتب لي تذكية للتفرغ. ما زلت احتفظ بصورتها حتى الآن. أيامها لم يكن الكتاب يتقدمون بطلبات. لا بد من ان يتم ذلك بتذكية من كاتب كبير أو آخر. المهم أنني حصلت على تفرغ لمدة عام قابلة للتكرار، ونشرت الصحف الخبر بما يعني حصولي على التفرغ لكتابة رواية. وأنا كذبت الخبر باعتباري لا أكتب روايات ولكن قصصاً قصيرة. وكان الرد أن التفرغ لا يمنح لكتابة القصص ولكن للروايات والأشياء الأخرى المطولة. وأنا الذي لم تكن نيتي أبداً أن تكون لي صلة بكتابة الرواية، كنت حصلت على التفرغ فعلاً. وهكذا قلت:"خلاص. مش مشكلة. نكتب رواية". هكذا شرعت في كتابة روايتي الأولى"مالك الحزين". رحم الله نجيب محفوظ.