ما من فكرة استحوذت على أهمية في مضمار التنظيم الدولي أكثر من فكرة الأمن الجماعي. إنها أساس قيام المنظمة الدولية الأولى"عصبة الأمم"، وتأسيس المنظمة الدولية الراهنة"الأممالمتحدة"عشية الحرب العالمية الثانية. أهمية الأمن الجماعي تنبع من أن الاعتداء على دولة هو بمثابة اعتداء على الأسرة الدولية او المجتمع الدولي. وعليه، فإن الأمن الذاتي للدولة، او الأمن الوطني، صار مرتبطاً بالأمن الدولي. وبقدر ما يطبّق نظام الأمن الجماعي - كما حَلُمَ المؤسسون الكبار - بقدر ما يتحقق السلم والأمن الدوليين بعيداً من الحروب والتهديد باستخدام القوة المسلحة. سقط نظام الأمن الجماعي بعد الغزو الياباني لمنشوريا 1931، والغزو الياباني للأراضي الصينية 1937، والغزو الإيطالي للحبشة 1936، وضم ألمانيا أراضي النمسا والسوديت 1938... ناهيك عن الاستعداد الفاشي والنازي لخوض غمار الحرب منذ ثلاثينات القرن العشرين... وجاءت النتيجة انهيار نظام الأمن الجماعي، وسقوط عصبة الأمم، في غمرة الحرب الكونية الثانية. بعد هذه الحرب أُعيد تجديد نظام الأمن الجماعي، ظلَّ الهاجس الأممي الأول هو منع قيام حروب تعيد الى الانسانية آلام القتل والدمار. بيد أن تطبيق هذا النظام أيام الحرب الباردة مع صعود القوتين العظميين: الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي السابق جاء محفوفاً بالمخاطر، ومشوباً بالفشل أكثر من النجاح لأسباب عدة: 1 - تراجع مجلس الأمن عن القيام بدوره نتيجة استخدام حق النقض الفيتو من جانب القوتين العظيين، وخصوصاً بعد قيام حلف شمال الأطلسي 1949، وحلف وارسو 1955. 2 - لجوء الجمعية العامة، استناداً الى قرار الاتحاد من أجل السلام 1950، الى استخدام صلاحيات مجلس الأمن في الحرب الكورية 1950، وحرب السويس 1956، وأزمة الكونغو 1960، وأزمة أفغانستان 1980، نظراً الى فشل مجلس الأمن في اتخاذ قرارات لحفظ السلم والأمن في تلك المناطق. بيد أن هذا التدبير تعرّض للنقد القانوني، وأعاد من جديد ضرورة بحث مضمون الميثاق الأممي وصلاحيات الفروع الرئيسة للأمم المتحدة. 3 - لم تتمكن الأممالمتحدة من تنفيذ قراراتها لإحلال السلام في الشق الأوسط حيث الصراع العربي - الإسرائيلي وقضية فلسطين، أو في قضية إقليم جامو وكشمير في شبه القارة الهندية... وعاد نظام الأمن الجماعي الى دائرة الشك والتشكيك. في المرحلة الثالثة، مرحلة ما بعد الحرب الباردة او مرحلة هيمنة الولاياتالمتحدة على الأممالمتحدة والنظام العالمي، تراجع نظام الأمن الجماعي الى أدنى فاعليته. لماذا؟ لأن هيمنة القوة العظمى الواحدة تؤدي الى إخضاع فكرة التنظيم الدولي من أساسها لمنطق القوة والغلبة. ولأن القرار الدولي المتعلق بالحرب والسلم يصبح رهن إرادة دولة واحدة مهما بلغت من درجات القوة. ولأن مجلس الأمن - الفرع الرئيسي المولج بحفظ السلم والأمن الدوليين - يتعطل دوره كما حصل في حربي الخليج الثانية والثالثة، وفي تفاصيل التسوية الشرق أوسطية بعد مؤتمر مدريد وما انبثق عنه من اتفاقات ومفاوضات وترتيبات أمنية وسياسية واقتصادية، وأخيراً في الحرب على الإرهاب التي أعلنتها إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش واعتبرتها حرباً عالمية، و"ان على العالم كله أن يختار بين أن يكون معنا أو يكون ضدنا"! الأممالمتحدة تقف عاجزة عن متابعة هذه القضايا بحكم القانون، والاختصاص، إضافة الى فشلها في معالجة المشكلات الأمنية في الصومال والبوسنة والهرسك ورواندا وغيرها. فماذا يبقى من نظام الأمن الجماعي؟ بل ماذا يبقى من هيبة الأممالمتحدة كإطار تنظيمي للتعاون الدولي والأمن الدولي؟ يجيب أمين عام الأممالمتحدة كوفي أنان في غير مناسبة بأن حربي الخليج الثانية والثالثة كانتا من خارج الشرعية الدولية! وأن الحرب الإسرائيلية السادسة على لبنان أثبتت عجز المنظمة عن اتخاذ قرار صريح بوقف إطلاق النار منذ اليوم الأول للحرب. ثم يناشد العالم: أنقذوا الأممالمتحدة! أكثر من ذلك، إن عبارة ازدواجية المعايير الدولية في تطبيق قواعد القانون الدولي مستقاة من التقارير السنوية لأمين عام الأممالمتحدة المقدمة للجمعية العامة في شهر أيلول سبتمبر من كل سنة. حصل ذلك في عهدي بطرس بطرس غالي وكوفي أنان. وعندما يتحضّر الأمين العام الحالي كوفي أنان لمغادرة منصبه يسأل عن"إزاحة الصخور الثقيلة عن ظهره". إنها صخور المسؤولية الدولية التي تعاظمت بعد انهيار نظام الأمن الجماعي. نقول انهيار النظام، لماذا؟ لأن"عسكرة العولمة"، أو عولمة الأمن، أو الى حد ما"أمركة الأمن"، ولو تحت ستار حلف الأطلسي كما هي الحال في أفغانستان، وسابقاً في كوسوفو... من شأنها وضع حدٍ لأحلام الإنسانية بقيام نظام دولي يطبّق القانون، ويحترم إرادة الشعوب في التقدم والسلام وحقوق الإنسان. ولأن الحرب على الإرهاب أفضت الى زيادة قوة الإرهاب والإرهابيين، في مناطق العالم كافة. فمكافحة الإرهاب لا تكون بالحديد والنار، بل بالثقافة والتنمية والعدالة. ولأن إطلاق العنان لإسرائيل في إهمال القرارات الدولية، بالاستناد الى التحالف مع الولاياتالمتحدة، زاد من الإحباط العالمي وليس مجرد إحباط عربي وإسلامي. هل عاد العامل تحت وطأة القوة العظمى الواحدة الى سياسة القوة بصورة أكثر شمولاً؟ هذا ما تطرحه الأوساط الدولية على هامش الدورة الواحدة والستين للجمعية العامة، وأمام مشهد انهيار نظام الأمن الجماعي. * كاتب لبناني