كثيرة هي الحكايا التي تروى في الجنوب وضاحية بيروت الجنوبية عن بطولات صنعها مقاتلو"حزب الله"في تحديهم الموت الاسرائيلي المسلط عليهم من كل الاتجاهات، لكنها روايات يختلط في بعضها الواقع بالخيال المشبع بالمبالغات الى درجة اعتبار الامر"معجزات إلهية"صنعت بدورها"انتصاراً الهياً". لا شك في ان ما خبره هؤلاء فاق كل تصور عن قدرات البشر على احتمال ذلك الاصرار الاسرائيلي على القتل بكل الوسائل، لكن ان تخوض امرأة عجوز التجربة نفسها في قرية لم يبق فيها الا القليل من ساكنيها وتنجو مع زوجها وابنتها التي تعاني من اعاقة جسدية، من موت لامس أجسادهم اكثر من مرة، فانها حكاية من نوع آخر تضيع بين الروايات ربما لأنها لا تخدم"قضية". تصعد الحاجة شريفة السيد الاخرس 61 سنة برشاقة الى سطح بيتها الذي فرشت عليه قمحاً سلقته للتو لمونة الشتاء من البرغل، وتشير باصبعها الى الفجوة الكبيرة التي احدثتها غارة اسرائيلية استهدفت منزل آل الاخرس في عيترون فكانت اول مجزرة ترتكب في حق المدنيين في البلدة، وتقول ان من تلك اللحظة بدأت رحلة الموت التي خاضتها بتحد فطري وهاجس البقاء، وهي التي نجت قبل اشهر قليلة من موت محتم حين فتك مرض عضال بامعائها ونجت منه بجراحةٍ وكمٍ من العلاجات. تسند الحاجة شريفة كفها الى حافة الدرج وتهبط طابقين الى الدار الجنوبية الطراز وتدخل الى غرفة يصل اليها ضوء الشمس بصعوبة وغطت ارضها الفرش الملونة وجلس عليها ثلاثة عجائز هم زوجها السبعيني علي الاخرس الذي وضع على رأسه كوفية واسند الى ركبته عصا رفيعة تعينه على النهوض، وزوجتا شقيقيه اللذين استشهدا في تلك الغارة وهما غارقتان في حزن صامت. تحضر ابنتها زينب الاربعينية صينية القهوة وتدور بها بصعوبة على الجميع نظراً الى الاعاقة في رجليها نتيجة مرض اصابها في طفولتها. في هذه الغرفة الشتوية يكتمل عدد ابطال حكاية قادنا اليها منسق الاعلام في الصليب الاحمر اللبناني في الجنوب علي سعد، والدكتورة هنريتا اسود والمستشارة الاقليمية للاعلام والاتصال في صندوق الاممالمتحدة للسكان المنظمة التي تتابع احوال النساء اللواتي مررن بظروف الحرب لمعالجة اثارها النفسية عليهن. تجلس الحاجة شريفة على احد المقاعد المخملية المهترئة التي تتوزع الغرفة مستدركة ان"البيت فوق ولكن القصف ترك فيه فجوات ونعمل على تصليحه، اما هنا فهو بيتنا ايضاً لجأنا اليه وقت القصف". لا تفارق البسمة ثغر الحاجة حتى وهي تروي اكثر اللحظات صعوبة في رحلة الهروب من عيترون الى مستشفى تبنين مشياً على الاقدام بل زحفاً على الاسفلت، وكأنها غير مصدقة نجاتها وزوجها وابنتها. تقول:"كنا نحو 60 نفراً في هذه الغرفة بالذات مع اولادي واحفادي وشقيقيّ زوجي وعائلاتهما حين سقط الصاروخ على المبنى المجاور، كان شقيقا زوجي يجلسان في صحن الدار المكشوف فيما كانت زوجتاهما تجلسان على العتبة، اخترقت شظيتان صغيرتان رأسيهما فقضيا على الفور، ونجت الزوجتان، ودب الهلع بين الجميع بعدما غطتنا الحجارة والزجاج المحطم، دفنا الرجلين على عجل وعدنا الى المنزل فتكرر القصف في اليوم التالي واصاب منزل آل عواضة فسقط تسعة قتلى وعدد آخر من الجرحى وبات قرار المغادرة لا بد منه، وخصوصاً انه ترافق مع مناشير اسرائيلية تأمر الناس باخلاء البلدة. غادر ابني وعائلته المؤلفة من 8 اطفال ولم تتسع السيارة لنا جميعاً، ورجح ان ابني الثاني سيأخذنا معه، وهو يسكن في منزل قريب مع عائلته، الا انه حين قصدنا لم نكن في المنزل انما في منزل شقيقي زوجي المجاور فظن ان أخاه اخذنا معه وهكذا بقينا بمفردنا، زوجي وابنتي وأنا، في البلدة الى جانب آخرين لجأوا الى مبنى المدرسة". وكان من الصعب على زوج الحاجة شريفة الانتقال الى أي مكان نظراً الى عجزه، لكن حين اشتد القصف خرجا مع ابنتها من المنزل في اتجاه المدرسة المهنية، لم تكن ثمة احذية في الاقدام، مجرد"مشاية"كما قالت الحاجة شريفة،"ولم نستطع الوصول الى المدرسة لشدة القصف، دخلنا الى منزل نحتمي منه وجاء شاب معه"بيك اب"ونقلنا الى المدرسة وهناك اشتد القصف اكثر وقرر الجميع الرحيل، لكن لم يأخذنا أحد معه لا نملك وسيلة نقل ومن معه هذه الوسيلة حشر فيها اهله وغادر. قررت ان نغادر فجراً الى عيناتا المجاورة مشياً على الاقدام، كان الحاج خلالها يحبو على الزفت حتى اهترأت البيجاما التي كان يرتديها، وصلنا عيناتا ظهراً ودخلنا منزلاً وجدت فيه قارورات غاز كثيرة خفت ان تنفجر بنا اذا استهدفنا القصف، فتحت الغسالة في هذا البيت ووجدت بيجاما فالبستها للحاج ثم مشينا من جديد واشتد القصف من حولنا، كانت طائرة الپ"ام كا"تحوم فوق رؤوسنا وتقصف جنبات الطريق، طرقنا باب منزل ورد حاج من وراء الباب ورفض ان يدخلنا، قال:"روحوا دبروا راسكم"، قصدت مبنى للاحتماء تحت درجه لمدة ساعة ونصف الساعة وجاء شخص وقال:"تعالوا الى بيتنا"يسواكم ما يسوانا"، لكن القصف اشتد من جديد وخرج الجميع في اتجاه منزل اكثر أماناً ووصلنا الى بيت يحتمي فيه نحو 50 شخصاً وحين قرر الجميع الهروب بعدما هدأ القصف طلبت منهم اخذ زوجي وانا ادبر حالي فكان الجواب"بالكاد ان نخلص انفسنا"، وهذا كان ايضاً جواب"الشباب"المقاتلون، تعب زوجي كثيراً وقررت ان اخذه الى مستشفى بنت جبيل، سرنا على الطريق لمدة اربع ساعات كنت تارة احمل زوجي على ظهري وتارة يزحف على الاسفلت، قلت لابنتي ان تسبقنا لطلب المساعدة ووجدت بيتاً مقصوفاً ولجأت اليه مع الحاج، تركته هناك وذهبت الى المستشفى بنفسي وطلبت ان يأتوا معي لاحضار زوجي فرفضوا من شدة القصف اعطوني حمالة على عجلات وقالوا خلصي حالك. عدت الى زوجي واحضرته وانزلونا الى الملجأ لكن القصف كان شديداً ورفضت ان ندفن احياء تحت الانقاض قلت نذهب الى رميش، اخذت زوجي وابنتي ومشينا على طريق كونين في اتجاه تبنين، حل الغروب ونحن على الطريق ولم يعد هناك أي بشري حولنا وكنت اصرخ وانادي علَ احد يسعفنا، وجدت بيت درج تحتمي تحته عجوز تاهت عن ابنتها، لم يكن المكان يتسع لنا جميعاً حاولت ان ازيح قسطلاً فيه نبتة لأتمكن من الجلوس فوجدت تحته مفتاح منزل دخلنا المنزل، وجلسنا على الارض لكن القصف بدأ يستهدفنا غطينا رؤوسنا بغطاء صوفي". الحاجة شريفة قررت الهرب من جديد مع طلوع الفجر:"كنا نمشي ونتوقف ويحبو زوجي واسنده او احمله، في بيت ياحون اشتد القصف من جديد صارت الطائرة الاسرائيلية تغير علينا تقصف جانبي الطريق، ولم تجرؤ ابنتي على وضع قنينة الماء على رأسها خوفاً من ان تستهدفها الطائرة، كانت هذه القنينة كل ما لدينا للبقاء على قيد الحياة، في تلك اللحظة اصبنا بشظايا القذائف التي كانت تسقط من حولنا، وكانت اصابة زوجي في ظهره ورجليه وراح ينزف حملته ثم وضعته على الارض، تركته هناك وقصدت منزلاً يبعد نحو كيلومتر واحد علني احضر دابة اضع عليها زوجي لمتابعة الطريق الى تبنين". في ذلك المنزل وجدت الحاجة شريفة ابنتها التي كانت انفصلت عنها. قالت لها انها لم تتابع الطريق خوفاً، وقال صاحب البيت ان اخرين استعاروا حماراً كان لديه لحالة تشبه حالة الحاجة ودعاها الى الاحتماء من القصف، لكنها وجدت عجلة تستخدم في نقل الحصى والترابة ازالت ما عليها وعادت بها الى زوجها. تصف الحاجة شريفة كيف وضعت زوجها في العربة قائلة:"لم استطع ان انهضه وضعت العربة على جنبها وادخلت الحاج اليها وحاولت ان اعيد العجلة الى وضعها رفعت يديه ورجليه وطويتها داخل العربة وقلت له الا يتحرك علماً انه كان ينزف، وجدت رأسه يستند الى حديد العجلة فنزعت مشايتي من رجلي ووضعتها تحت رأسه، وكانت الطريق نزولاً فتمكنت من دفع العربة لكنها افلتت مني وكانت الشمس مسلطة علينا ولم يعد معنا ماء نشربه". لم يكن الحاج علي المصاب يدري ما يدور حوله. كان فاقداً الوعي من شدة الاعياء. وتضيف الحاجة شريفة انها وصلت الى منزل ووجدت فيه شخصاً مسناً قالت له انها لم تعد قادرة على مواصلة الطريق:"دعه عندك لاذهب الى المستشفى واحضر مساعدة". اجابها بأن ابنه يعمل مسعفاً في الصليب الاحمر وانه لم يتصل به منذ ساعات واذا فعل فسيطلب منه مساعدتها، ورن الهاتف الخليوي وطلب المسعف من والده الانتظار نصف ساعة لتأمين الاسعاف، في ذلك الوقت احضرت الحاجة شريفة ماء ووضعته على يدي زوجها وبللت له رأسه وشفتيه وانتظرت الصليب الاحمر الذي نقل الجميع الى مستشفى تبنين حيث تم اسعاف جروح الزوج وكتمت الحاجة شريفة عن جروح اصابتها في امكنة حساسة من جسدها قالت انها خجلت من ان يراها الاطباء. طريق الجلجلة الذي امتد 13 يوماً لم تنته اثاره بعد، فالحاجة شريفة على رغم استعادتها حياتها ما قبل الحرب، لم تعد قادرة"على احتمال صوت اللحاف حين ترميه زينب على السرير فصوته يجعلني أستعيد خوفاً سكنني أياماً". وهي تتناول الكثير من"البنادول"دواء مسكن كي توقف الاوجاع في اذنيها من شدة اصوات القصف الذي لاحقها مع زوجها وابنتها. وتقول انها لا تنام في الليل، تبقى جفونها مفتوحة على الفزع الذي كان الدافع الى القيام بما فعلته، ففي اجتياح العام 1982 مرت بتجربة مماثلة، كانت تهرب من القصف وهي تحمل طفلها الذي ولد قبل ثلاثة ايام فقط، لكن"كنا شباباً". وتفضل الحاجة شريفة الانطواء على نفسها واعادة الحسابات، وحين قلنا لها ان ما قامت به عمل بطولي اكتفت بالابتسام، اما عن نخوتها تجاه زوجها فتقول:"مضى على زواجنا 45 سنة، قد تكون كتبت لي الحياة من جديد بعد اصابتي بالسرطان كي افعل ما فعلته، النساء تتحمل اكثر من الرجال". وحين نسألها ما اذا كان زوجها ليفعل الشيء نفسه، تضحك وتقول مازحة:"كان تركني لاموت وتزوج مرة ثانية".