التفتت مسرعة، بعد تحديق طويل بعجوز مارّة، وقالت:"هل فهمتِ ما الذي أقصده؟"، بإشارة إلى ملصق علّقته العجوز على صدرها طُبع عليه"إلى متى؟". سؤال اتخذه عشرات الأهالي شعاراً لهم في حملة تهدف إلى الكشف عن مصير أبنائهم الذين فقدوا في فترة الحرب اللبنانية وما بعدها. عايدة قصدت أن تبرهن مخاوفها التي استفاضت في شرحها، فور طرح فكرة"الجدوى من التعلّم"أمامها. فالعروس الشابة، التي لم يمضِ على زواجها أكثر من سنتين، تحوّل حلمها في بناء عائلة إلى هواجس ومخاوف متعددة. وبعد أن كانت أفكارها تدور حول الجنّة التي تريد أن تبنيها لطفلها المنتظر، وجدت نفسها فجأة تحتضن بطنها المتكوّر لأكثر من شهر في محاولة فاشلة لتجنيبه الرعب الذي زرعه في نفسها العدوان الإسرائيلي الذي طاول لبنان في 12 تموز يوليو الماضي. ابنة ال25 سنة، استعادت فجأة أيامها على مقاعد الصفوف الابتدائية، وذلك الانتظار الرهيب في ممرّات المدرسة بعد الإعلان عن استنفار أمني في محيط مدرستها. وتتساءل:"كيف لي أن أفكّر بإرسال طفلي إلى المدرسة، ومن ثم أجد نفسي، من دون سابق إنذار، غير قادرة على الوصول إليه". تصنّف عايدة هذه الحرب الأولى التي تعايشها، فخلال تلك التي سبقت كانت طفلة، نجح ذووها بالهروب بها من مكان إلى آخر، من دون أن تشعر بضراوة الحروب التي مرّت على لبنان. تنتقل عايدة من فكرة إلى أخرى، وتتحوّل إلى مستفسرة عن جدوى التعلم في وطن يفتقر إلى الاستقرار، بلد يجدد حروبه كل عشر سنين، فضلاً عن الفساد المستشري في جميع الميادين، و"الواسطات"التي لا بد من"أن تولد مع الفرد، كي يستطيع الاستمرار"على حدّ قولها. وتضيف:"أيام المدرسة تمرّ. ولكن الصعوبة بالوصول إلى الجامعة، وإن لم أملك المال كي يتخصّص ابني في جامعة خاصة، ما النفع من دخوله إلى المدرسة من البداية". وتستدرك:"أقولها بصراحة لأنني أعلم ما يعانيه طلاب الجامعة اللبنانية. مستواها جيد، ولكن ما النفع في ظلّ جميع المشكلات السياسية وغير السياسية التي تحيط بها". تسرح في نظرها، ومن ثمّ تقول متنبّهة:"قد يظنّ البعض بأنّني أهذي، لأن من المبكّر التفكير في كلّ ذلك. فأنا لا أزال حاملاً بطفلي الأول. ولكنّي لم أنسَ بعد ما مررت به، وحتى زوجي يشاركني بعضاً من هذه الهواجس". ترى عايدة أن المشكلة الأساسية تكمن في عدم وجود مؤشرات على تغيير الأمور نحو الأفضل في لبنان، في ظلّ المشاحنات السياسية في البلد، وتتخوّف من مستقبل يبدو ضبابياً في ظلّ"قيادات سياسية تستمدّ وجودها من الشحن الطائفي والمذهبي". وتسخر قائلة:"أصبحت أشك بأنني أريد لطفلي أن يحيا في هكذا أجواء، فكيف لي أن أفكر بدراسته؟". وتضيف:"أعتقد بأن التفكير الجدي في هذا الأمر، ينحو بي إلى التفكير بالهجرة إلى بلد يحترم حقوق طفلي بالسلام والتعلّم". قرار وزارة التربية والتعليم العالي بإرجاء بدء العام الدراسي إلى 9 تشرين الأول أكتوبر المقبل، قرار تعتبره عايدة دليلاً صارخاً على صحّة هواجسها، وتضيف:"لنفترض أن ابني اليوم شاب في الجامعة اللبنانية، يبدأ عامه الدراسي بعد شهر، ومن ثم يأتي الإضراب احتجاجاً على التعاقد الوظيفي. ومن بعده الإضراب المفتوح احتجاجاً على تفرّغ الأساتذة الجامعين. إلى إضراب بسبب زيادة على الرسوم. فضلاً عن أيام العطل الرسمية، من دون أن ننسى الاعتصامات الاحتجاجية على تعيين أستاذ من طائفة لا تتلاءم والفرع، أو قرار دمج الفروع... وجمعيات عامّة تتناول ذكرى الاغتيالات، والحروب، والاستقلالات، والانتصارات...". تتنهّد عايدة:"في عام تخرّجي في الجامعة درست 43 يوماً بالعدد... كيف لي أن أتخيّل مستقبلاً أكاديمياً لطفلي؟ أرجو ألاّ يكون تكراراً لما مررت به كل تلك السنوات!".