هنالك نوعان من المشاكل المطلوب دراستها وتحديد موقف وسياسة في شأنها، المتعلقة بمصادر التمويل الرئيسة في العراق، والهدر والأضرار التي لحقت بالاقتصاد الوطني في النظامين السابق والحالي. الأول: يتعلق بالقضايا الناشئة عن الأوضاع الراهنة والمقبلة، وتستدعي اعتماد إدارة سليمة للموارد المالية سواء في إطار الموازنة العامة للدولة أو برامج التنمية الاقتصادية - الاجتماعية بما في ذلك، تأمين الآليات والضمانات اللازمة لمكافحة الفساد المستشري والحرص على حماية الثروة الوطنية وممتلكات الدولة من جميع مظاهر الاستغلال والتصرف غير المشروع. والثاني: يتصل بالمعضلات المتراكمة، الناجمة عن سياسات النظام السابق وعواقب ممارسته الضارة، والتي ترتب عليها أعباء مالية كبيرة على الدولة أو وقع في إطارها مخالفات وتجاوزات على أموال العراق من جانب جهات خارجية وداخلية، كما أنعكس وينعكس حتى الآن في تركة ما يسمى بالتعويضات عن حرب الخليج الثانية غزو الكويت 1990 - 1991 وكذلك برنامج النفط مقابل الغذاء. والواقع، أن جميع هذه القضايا والمشاكل كانت ومازالت تدور حول النفط وصادراته، التي تشكل المصدر الأساسي لموارد العراق المالية ومحور النشاطات الاقتصادية والتعاملات التجارية سابقاً ولاحقاً بما في ذلك مظاهر النهب والفساد وسوء الاستخدام الذي أصاب ويصيب هذا القطاع الحيوي الأهم في الاقتصاد العراقي. 1- صندوق التنمية العراقي من المعروف أن"صندوق التنمية العراقي"هو الوعاء الأساسي الذي تتجمع فيه عوائد الصادرات النفطية وكذلك المبالغ المتبقية من "برنامج النفط في مقابل الغذاء"، إضافة إلى الأموال العائدة للعراق في بعض البلدان العربية والأجنبية والأرصدة المجمدة سابقاً في المصارف الخارجية، وذلك بموجب قرار مجلس الأمن رقم 1483 عام 2003 الذي استحدث الصندوق ووضعه تحت سلطة الاحتلال. وأستمر هذا الصندوق في العمل بعد حل السلطة في 30 حزيران يونيو على أن تنقل صلاحيات ادارته إلى السلطات العراقية المتعاقبة. كما جرى بموجب القرارين المذكورين تأسيس المجلس الدولي للمشورة والرقابة. وتتلخص مهامه في تأمين استخدام أموال صندوق التنمية بصورة شفافة لمصلحة الشعب العراقي، وكذلك أن تجري مبيعات الصادرات والمنتجات النفطية والغاز الطبيعي من العراق طبقاً للمعايير والممارسات الدولية السائدة في السوق العالمية. ويضم المجلس في عضويته ممثلين عن الأممالمتحدة والبنك وصندوق النقد الدوليين، والصندوق العربي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية وكذلك الحكومة العراقية. ومن المقرر أن تنتهي ولايته في نهاية العام الجاري. بلغ مجموع الأموال العراقية التي أودعت في"صندوق التنمية العراقي"خلال الأعوام الثلاثة الماضية أكثر من 37 بليون دولار. وكان يوجد في الصندوق، في نهاية 2005 حوالي 5.4 بليون دولار. من جهة أخرى، يجب الإشارة إلى أن حوالى 10 بلايين دولار حولت إلى"صندوق التنمية"من المبالغ الباقية في"برنامج النفط في مقابل الغذاء"، الذي كانت تديره الأممالمتحدة حتى نهاية 2003. كما أن جزءاً من أموال الصندوق استخدم في تعزيز احتياط البنك المركزي العراقي بحيث ازداد تباعاً ليبلغ حوالي 12.7 بليون دولار في نهاية نيسان أبريل من هذا العام. والحقيقة، أن تقارير"المجلس الدولي للمشورة والرقابة"وشركات التدقيق المكلفة مراجعة حسابات الصندوق العراقي للتنمية ومبيعات النفط، تشير إلى ممارسات غير مشروعة وفجوات كبيرة في عمل"الصندوق"والجهات الرسمية العراقية، فضلاً عن المخالفات التي تمت في عهد سلطة الاحتلال. ففي آخر اجتماع لهذا المجلس في تموز يوليو 2006 المنعقد في نيويورك، بحثت التقارير المقدمة من شركة Ernest and Young المتعلقة بتدقيق الحسابات للفترة من أول تموز يوليو 2005 وحتى نهاية السنة ذاتها، وأقر المجلس مجموعة من الملاحظات الانتقادية وطالب باتخاذ الإجراءات اللازمة لإصلاح الأخطاء الحاصلة. وجاء في تقرير المجلس: "لا زالت التقارير المقدمة، في شأن مراجعة حسابات صندوق التنمية العراقي تتضمن انتقادات لنظم المراقبة المالية والمحاسبية المعتمدة في الوزارات العراقية التي تضطلع بالإنفاق وكذلك الوكالات الأميركية ذات الصلة، إضافة إلى الإدارة العراقية للصندوق. لذلك قرر المجلس الدولي حضّ الحكومة العراقية على اتخاذ خطوات ملموسة لتطبيق التوصيات والاستنتاجات الواردة في تقارير مراجعة الحسابات بهدف حماية موارد النفط وتحسينها". في ضوء ذلك، من الضروري دراسة الوضع المالي في صندوق التنمية العراقي ومراقبة النشاطات المرتبطة بعقود المبيعات النفطية وفق آلية جديدة سليمة وفعالة، والإفادة من تقارير شركات التدقيق المقدمة للصندوق للوقوف على الفجوات والممارسات الواجب معالجتها. كما ينبغي تشكيل هذه الآلية - آلية المراقبة - في المستقبل القريب وقبل نهاية هذا العام حيث ستنتهي ولاية المجلس الدولي للمشورة والرقابة بموجب قرار مجلس الأمن رقم 1637. 2- استعادة الحقوق المترتبة على"برنامج النفط مقابل الغذاء" انطوى"برنامج النفط في مقابل الغذاء"على سلسلة من المناورات السياسية والصفقات والرشاوى والعمولات، على نحو يتنافى والمصالح الوطنية العراقية ويتيح توجيه أصابع الاتهام لجهات واسعة داخلية وخارجية. ومعروف أن البرنامج امتد لأكثر من سبعة أعوام 1996 - 2003، وتولى الإشراف على عقود مبيعات النفط من ناحية، وعقود استيرادات العراق من المواد الغذائية والأدوية ومعدات أخرى من جهة ثانية، بحسب قرارات مجلس الأمن المتخذة آنذاك. وبلغت قيمة المعاملات المالية للبرنامج ما يقرب من 100 بليون دولار، متوزعةً بين مبيعات النفط البالغة 64 بليون دولار تقريباً، وبين مشتريات المواد الغذائية والدوائية ومعدات أخرى بحوالى 36 بليون دولار. وكشفت نتائج تحقيقات"لجنة بول فولكر"الدولية وقائع مثيرة تتطلب ملاحقة قانونية ومتابعات حكومية لاستعادة حقوق العراق وحفظ مصالحه. ومن الأمثلة التي وردت في تقرير اللجنة الدولية ما يلي: أ - هنالك بليونا دولار سرقت، بسبب سوء إدارة البرنامج، وبصور مختلفة كالرشاوى والرسوم الإضافية والعمولات من قبل وكلاء النظام السابق والوسطاء المعتمدين. وشاركت في هذه الممارسات أكثر من ألفي شركة، وغالبيتها شركات صورية ومكاتب تجارية وهمية، عراقية وعربية وأجنبية. ب - هذه المخالفات ألحقت ضرراً كبيراً بسمعة وصدقية الأممالمتحدة واساءت للطبيعة الإنسانية للبرنامج. ج - جاء في تقرير اللجنة الدولية : أن معطيات التحقيق في النشاطات المحظورة، مما أتهم بها مشترون كثيرون للنفط وكذلك بائعون ومجهزون للسلع الإنسانية الغذائية والدوائية بينت الاستنتاج الرئيس للجنة الدولية الذي يؤكد فشل الأممالمتحدة في مراقبة وإدارة هذا البرنامج ويدعو لإصلاح جدي. د - كشفت اللجنة الدولية قوائم بأسماء الشركات والمؤسسات والأفراد ارتبطت بعمليات شراء النفط وبيع المواد الإنسانية بصورة غير شرعية، ممن تلقوا بصورة مباشرة وغير مباشرة رشاوى وعمولات. وينتمي هؤلاء لأكثر من 66 دولة. ه - طعنت اللجنة بنزاهة دور"مصرف باريس الوطني" B N P الذي كان يدير الحساب المصرفي للبرنامج ويقوم بتسوية تعاملاته واعتبرته متورطاً في تغطية نشاطات غير مشروعة. و - فضح التقرير عمليات تهريب النفط خارج أعمال البرنامج بواسطة آلاف العربات والصهاريج التي كانت تتحرك عبر الحدود من غير رقابة فعالة أو في ظل رقابة شكلية ومحدودة. ز - تقدر قيمة النفط المهرب خارج البرنامج ب 11 بليون دولار، إضافة الى حوالى بليوني دولار تحققت من خلال التلاعب رسوم إضافية على النفط المصدر والتي ذهبت جميعها الى ممثلي ووكلاء النظام السابق. والخلاصة، أن معطيات ونتائج التحقيق التي توصلت إليها"لجنة فولكر"كان لها آثار وردود فعل فائقة الأهمية من النواحي السياسية والإدارية بالنسبة للأمم المتحدة وبعض الجهات الأجنبية، واتخذت إجراءات معينة لتنفيذ توصيات هذه اللجنة الدولية. كما ان تأثيرها أمتد لعدد من البلدان الأجنبية وترتب عليه إمكانية الملاحقات القانونية ومنها إعلان وزير خارجية الهند عن استقالته لورود أسمه في قوائم المتورطين في النشاطات غير المشروعة للبرنامج. غير ان الأمر الأهم هنا، هو أن تتولى الحكومة العراقية متابعة عواقب هذا البرنامج على مصالح العراق. لذا نقترح أن تتشكل هيئة وطنية مستقلة لمعالجة هذا الموضوع وتضم ممثلين عن الحكومة ومجلس النواب وعدداً من الخبراء وممثلي الرأي العام. 3- مراجعة تعويضات حرب الخليج تعتبر تعويضات حرب الخليج الثانية من اكبر الأعباء المالية التي تثقل كاهل الاقتصاد العراقي، وتكبل الدولة وتعوِّق حركتها الإنمائية. ففي أعقاب غزو الكويت وحرب الخليج الثانية في 1991، قرر مجلس الأمن إلزام العراق دفع تعويضات إزاء الحوادث التي رافقت الحرب المذكورة، وهي تشمل حوادث الموت وفقدان الممتلكات أو الأضرار بها وتخريب البيئة، إضافة الى مطالبات تجارية . وتبعاً لذلك اتخذت إجراءات كثيرة منها : أ - جرى تأسيس"لجنة تعويضات"تابعة لمجلس الأمن وفقاً للقرارين 687 وپ692 لسنة 1991، وتتألف هذه اللجنة من ممثلين عن الدول الأعضاء في مجلس الأمن، وأقيم لها مكاتب في جنيف لمزاولة أعمالها. ب - بموجب قرار مجلس الأمن 705 الصادر في آب أغسطس 1991، تقرر ان تستقطع 30 في المئة من مبيعات النفط العراقي لدفع التعويضات التي تقررها لجنة التعويضات. ثم خفضت النسبة الى 25 في المئة بموجب قرار مجلس الأمن 1330 لعام 2000 نظراً للضغط العالمي الذي اشتد آنذاك بسبب تدهور الأحوال الاقتصادية للعراق. ج - في أعقاب الحرب وتغيير النظام السابق في 2003 ، اصدر مجلس الأمن قراره بفرض الاحتلال رسمياً على العراق والمرقم بپ1483 في أيار مايو 2003. وتضمن ذلك القرار أيضاً، إلغاء الحصار والعقوبات الدولية، كما خفضت نسبة الاستقطاع من مبيعات النفط الى 5 في المئة لتمكين لجنة التعويضات من مواصلة عملها. ثم تكرر تأكيد هذه النسبة في القرار اللاحق 1546 لعام 2004 بعد حلّ سلطة الائتلاف واستعادة السيادة رسمياً. د - في حزيران يونيو 2005 ، أصدرت اللجنة آخر تقرير لها واختتمت أعمالها وتوقفت عن استلام أي مطالب جديدة، غير ان سكرتارية فنية تواصل تنفيذ قرارات اللجنة وإجراء أعمال المتابعة في جنيف. ه - استلمت لجنة التعويضات مطالبات وشكاوى تبلغ قيمتها 352.5 بليون دولار. إلا ان اللجنة وافقت على عدد منها تبلغ قيمته 52.5 بليون دولار. وبذلك، يتوجب على العراق ان يدفع هذه المبالغ الطائلة على امتداد السنين القادمة، ويجرى استقطاعها من عوائد النفط واستلامها مباشرة من"صندوق التنمية العراقي"وفق النسبة المقررة والبالغة 5 في المئة سنوياً. وقد دفعت تعويضات للأفراد والحكومات والمنظمات الدولية والشركات بما يقرب من 21 بليون دولار حتى اليوم. أي أن المبالغ المتبقية والواجب استقطاعها من عوائد النفط تبلغ أكثر من 31 بليون دولار. لذلك، يجب إعادة النظر في مسألة التعويضات. فالعبء كبير والتعويضات قد فرضت في ظروف شاذة، كغزو الكويت وما تلاها. وأن يدفع الشعب العراقي ثمن أفعال ارتكبها نظام سابق أمر ظالم، لا يمكن للشعب أن يكون مسؤولاً عن نتائج هذه الأعمال. كما إن الأممالمتحدة مطالبة بإعادة النظر بقرارات التعويض وعدم إلزام العراق بدفع مزيد منها. فمن الغريب هنا، أن تتداعى الدول الأجنبية والمؤسسات العالمية لتقديم المعونات لدعم إعادة الإعمار في العراق ومساعدته على تجاوز مشاكله وصعوباته، من ناحية، وإلزامه من ناحية أخرى بفرض أعباء مالية عليه من خلال إبقاء التعويضات. لذا نقترح أن تتبنى الحكومة العراقية هذا الموقف وتطلب من الأممالمتحدة والأطراف العالمية الأساسية تأييدها لمراجعة قرارات التعويضات وإلغائها، أسوة بما فعلت بالنسبة لخفض ديون العراق الخارجية. هذه مجموعة من الملاحظات والمقترحات الهادفة لمعالجة الأضرار التي لحقت وتلحق بمصادر الثروة الوطنية، والتي كلفت العراق وما زالت أثماناً باهظة، وتستدعي إجراءات مدروسة وجدية على المستوى الرسمي ومساندة قوية من مجلس النواب والرأي العام العراقي. ويلاحظ أن هذه الظواهر تتعلق فقط بالميادين التي تتصل بأطراف وجهات أجنبية، أما صور الفساد وسوء الإدارة المالية الجارية على الصعيد الداخلي فتحتاج من دون شك إلى تناول آخر وهي لا تقل خطورة عن تلك المتعلقة بالجهات الأجنبية. * مقتطفات من مذكرة قدمها النائب في البرلمان العراقي مهدي الحافظ الى المجلس في 14 أيلول سبتمبر الجاري.