فلنجازف بالافتراض بأن تفجيرات 11 أيلول سبتمبر لم تحصل. هل كانت ستقوم ساعتئذ حروب افغانستانوالعراقولبنان؟ يمكن الاعتراض على الافتراض والقول: لولا الانتفاضة الثانية، لولا غياب حل عادل للقضية الفلسطينية، لولا إسترسال اميركا في هيمنتها على العالم... هل كانت 11 أيلول لتحصل؟ حسنا. لكن الغرض من الافتراض بأن 11 أيلول لم تحصل، ليس ادانة بن لادن وصحبه، مع انه مُدان. الغرض هو ملاحظة اننا دخلنا في شكل جديد من الصراع، أطر جديدة، ساحات جديدة، كانت لها إرهاصات بعيد انهيار الاتحاد السوفياتي وتكريس اميركا كقوة عظمى وحيدة. صراع توزان القطبين الاميركي والسوفياتي السابق حلّ مكانه اتون من الصراع، متسارع الوثبات والمفاجآت. لا نكاد نستوعب الواحدة حتى تهبط علينا الاخرى. وهكذا، حتى باتَ 11 أيلول نقطة انطلاق لحروب تنطوي على انعدام نهاياتها. كيف؟ بطبيعة الردّ عليها. بالحرب ضد الارهاب التي بها صعقت اميركا المحافظة كل من تجرأ وقهرها في عقر دارها. مثل الرد الاسرائيلي على"حزب الله"، كان الرد الاميركي على"القاعدة"، متغطرساً أهوج وزائد الثقة بنفسه. افغانستان، العراق، لبنان، ثم كل انحاء العالم صارت هدفا لحرب أمنية بامتياز، كلاسيكية بامتياز. ومتى؟ في عصر تبدّلات، يعتز الاميركيون انها من صنعهم"يقفون في وجه عدو تعاظمت جماهيريته في هذه الاثناء، وتعقّدت بواطنه. حرب مفوّتة، تلك التي يخوضها الاميركيون. كان نابوليون بونابرت، الاقل تسلحاً، اكثر اجتهادا منهم في الاستحواذ على عقول أهل الشرق المحتل. فالمشكلة، أيضاً، ان اميركا غرفت من ديموقراطيتها، من نفس هذه الديموقراطية التي تصدّرها للحرب... غرفت حريات بعينها"وصارت كمن يعاقب الديموقراطية على ذنب تسهيلها مهمات"القاعدة"واخواتها. لسنا وحدنا المساكين. الاميركيون ايضا"والكثيرون منهم لا يتوقفون عن التفكير بأسى بديموقراطتيهم المهدورة على مذبح الحرب ضد الارهاب. اذ لا سبيل آخر في المنطق الامني المتّبع. والمهم ايضا ان كل محطة من محطات هذه الحرب تزيد في تجذّر الخيارت، وفي تشابه الطُرق. وتضيف الى صفوف المعادين لأميركا المزيد من التديّن المسيّس، المزيد من الراغبين بحمل السلاح ضدها وضد حليفتها اسرائيل، المزيد من الراغبين بالإنسلاخ عن الثقافة الحداثية الليبرالية الزمنية. اقوى العقول تنضم الى هذا الركب، وبعضها يعلن بإعتزاز براءته من ملَكة العقل. قوام القطبين القتل: اميركا واسرائيل يريدان قتلنا؟ فلنقتلهما. الارهاب يريد قتلنا؟ فلنقتله... وهكذا. أتون من الموت. عماده الثأر. الأتون يسرّع الحروب الاستباقية المعتمدة لدى"الجبهتين". ليس فقط جورج بوش يغزو العراق استباقياً. بل ايضا"حزب الله"يشعل حربا استباقاً لعدوان سوف يحصل"في الخريف القادم"، بحسب معلومات امينه العام حسن نصر الله. اذاً انت لست في قلب مجرّد حرب"بل سلسلة من الحروب، تستبق الواحدة الاخرى. العولمة اعطت للساحات امكانية ان تنفتح على بعضها."حزب الله"فهم جيدا هذا الانجاز المعولم"حوَّل حالة مذهبية ضيقة الى قيادة"أمة"عائمة، مليارية ربما. بفضل"دولته"المتسامحة والعاجزة. فمعسكر الارهاب، او المحسوب على الارهاب، او في افضل الاحوال الملتبس عمداً، عيّنه جورج بوش في اكثر من خطاب: استلهم الدين، دينه ودين الارهاب، لصياغة مفهوم الحرب عليه. وهذا ليس اقل من تراجع غير ملتبس عن إرث الحداثة والتنوير والحرية. إرث اوروبا بالاساس. المقابل الشرقي الجنوبي"الارهابي"يزداد بذلك تديّنا. النقاش الآن في الاوساط الاعلامية العربية، المعادية لأميركا وغير المعادية للارهاب، هو"نقاش"فقهي: هل لنا نحن اهل السنة، ان نتبع اهل الشيعة؟ الشيخ يوسف القرضاوي نجم هذا"النقاش"، يأخذ على الشيعة شيعيتهم وعلى حسن نصر الله"تعصبه الشيعي"، مع انه"افضل من الزعماء الآخرين"... فيستلهم الجمهور العريض سلوكه بمتابعة تداعيات هذين المأخذين."نقاش"يحسمه شيخ الازهر بالتأكيد بان الشيعة مسلمون طالما انهم يقومون بما يقوم به المسلم. الظواهري، الرجل الثاني في"القاعدة"، يشد أزر"حزب الله"في ندائه الاول"ويدعو في ندائه الثاني اللبنانيين الى رفض القرار 1701 والى خوض حرب شعبية جهادية ضد اسرائيل والغرب. رافض القرار 1701 الاساسي، أي"حزب الله"، لا يجيب عن الندائين"العقول مشغولة الآن بمعرفة ما اذا كان هذا الغموض المقصود حول العلاقة مع"القاعدة"يخدم سياسة طهران"الذكية"، صاحبة التقية... والتي قد تكون خبّأت لنا مفاجآت"قاعدية"من العيار الذي يتجاوز مخيلتنا. رئيس جمهورية ايران الذي ينام ويصحو على الوعد برمي اليهود في البحر، المتحدي اميركا بسلاحه النووي، ليس رأس حربة سياسية فحسب، بل ثقافية ايضا. دعا في خطابه الاخير في جامعة طهران الى العودة الى"قيم الثورة الاسلامية". وأوجب ضرورة"تطهير الجامعات الايرانية من تأثير الفكر الليبرالي والعلماني". دعا ايضا الى منع مشاركة الجامعيين الايرانيين في مؤتمرات خارجية وابتعاد مسؤولي الجامعات عن السياسة. وهدفه من حملته تصحيح"الخلل التاريخي"الناجم عن الاحتكاك بالغرب وعمره 150 سنة كما يقول. انها بمثابة العودة الى الاسلامية الاولى: الاسلامية التي طالب بها ابو الاعلى المودودي، وسيد قطب: حيث غير مسموح اخذ شيء من الغرب الا التكنولوجيا. القطب المعادي لأميركا يضم الى صفوفه علمانيين ويساريين وقوميين وليبراليين"وحتى دولا مثل كوبا وفنزويلا وكوريا الشمالية وزيمبابوي... شيء من الحنين الى الخمسينات والستينات وبعض السبعينات، الى مراحل صعود حركات تحرر وطني. شيء من الامل و"الثقة"بان"الروح عادت مجددا الى"الامم"، ولهم دور في حمل مشعلها. هذه مجمل حيثياتهم. حاول ان تنظر الى مشهدهم من بعيد، او مشهدهم في المرحلة التالية. الاستقطاب يزداد الآن، ويتوسع. بالامس تكلم احد خطباء"حزب الله"فقال عن الذين ينكرون النصر على حزبه بأنهم"مجموعة مهزومة"راهنت على اسرائيل لتهزم"القوة التي وقفت بعزم دون ان يتحول لبنان الى بلد المرابع الليلية". إحتكار الفضيلة بعد إحتكار الدين والسلاح!. وهذا احد اوجه المفاضلة الدائرة اليوم بين نقيضين: المقاومة او الديموقراطية. المقاومة تلغي الديموقراطية. والديموقراطية تلغي المقاومة. تبسيط رائج في ازمنة الحروب. نوع من"الخيارات"التي تروّجها"الاستفتاءات"التلفزيونية. المقاومة تلغي الديموقراطية بالتأكيد. والتجربة لا تقتصر هنا على"حزب الله". المقاومات من هذا القبيل لم تنتصر الا على مجتمعاتها. انظر الى الجزائر وفيتنام... ولكن الديموقراطية لا تلغي المقاومة، بل تغير معناها الحربي، وقد تخترع افعالا اخرى. طبعا الاستقطاب الحاد للعداوات والافكار، او بالاحرى الاتون الذي نحن في صدده، يلغي الديموقراطية ولا يعطي للمقاومة غير معنى واحد هو الموت، الاستشهاد. "الانهزاميون"من كلا الطرفين هم الذين يريدون ايقاف الحرب. نعت"الانهزامية"موجود في قاموس المحافطين الاميركيين كما في قاموس"حزب الله"وأترابه. التخوين كذلك:"حزب الله"لا يقبل اقل من انضمام كل اللبنانيين الى المحور الايراني السوري في بيانه الاخير ضد جماعة 14 آذار. وكل من يتطاول على نصره التاريخي والاستراتيجي وكل مطالبة بنزع سلاحه، ليست سوى"تجديد لأوراق اعتماد هذه القوى لدى السيد الاميركي". الصراع لم يكن متوقفا قبل تفجيرات 11 أيلول. لكن بعدها، تحول الصراع الى أتون من الاستقطاب الدموي الديني الحاد. كل قطب فيه يريد الاجهاز على روح الآخر ونفسه. اننا نسير، بل نهرول تقهقراً بفضله. والسؤال الباقي: ما الذي يوقف، ولو لبرهة غير تاريخية، هذا التراجع الرهيب عن مكتسباتنا الانسانية؟