مع صدور القرار 1701 وازدحام منطقة الجنوب اللبناني بقوات"اليونيفيل"، باشر"حزب الله"عملية الانكفاء الى الداخل استعداداً للتحول الى حزب سياسي مشارك في بناء كل الدولة. وهذا لا يعني في نظر قيادته، أن الحزب تخلى عن مهمات تحرير الأرض التي قاتل من أجلها، بل يعني أن انخراطه في الحياة السياسية المحلية سيكون أشد تأثيراً وأعمق رسوخاً. لهذا رأت الصحف في حديث السيد حسن نصرالله لقناة"الجزيرة"مدخلاً لمرحلة جديدة، يمكن أن تزيد من تعقيدات الموقف اللبناني - الرسمي والشعبي - خصوصاً عندما تناول أداء رئيس الحكومة فؤاد السنيورة. وقد استهدف في ملاحظاته القاسية زيارة رئيس وزراء بريطانيا توني بلير، واعتبرها"اهانة وطنية، وتصرفاً غير مسؤول، لأن الضيف شريك في قتل اللبنانيين". ويبدو أن الحزب اتخذ هذا الموقف المتشدد بعد استبعاد سورية من جولة شملت إسرائيل والضفة الغربية وبيروت، علماً أن دمشق أعربت عن استعدادها لاستقبال بلير ووزائه، مثلما استقبلت طهران جاك سترو في أوج خلافاتها السياسية مع حكومة"حزب العمال". رئيس الحكومة فؤاد السنيورة تجاوز الإهانة التي فاقت في حدتها اهانة الرئيس بشار الأسد الذي وصفه ب"عبد العبد". وقال إنه مستعد لامتصاص حملة التحامل بهدف تجنيب البلاد خطر الانتقال من الحوار الوطني الى الصدام الوطني. واعتبر ان مسؤوليته الدستورية تحتم عليه رسم سياسة الدولة وتحمل تبعات السلطة الاجرائية. وهو يستغرب اتهامه بالتقاعس والتخاذل ازاء قرار عسكري اتخذه"حزب الله"من دون ابلاغه أو استشارته. ومع هذا كله، فإن حكومته تخطت المحاسبة والمساءلة واعتبرت نفسها مسؤولة عن العبء الأكبر مما خلفته العملية العسكرية. القراءة الأولى للحديث الأول الذي خصّ به السيد حسن نصرالله قناة"الجزيرة"، تعطي الانطباع بأن أمين عام"حزب الله"عاتب على الحكومة اللبنانية وعلى فريق كبير من السياسيين الذين تجاهلوا الانجاز الحربي والسياسي الذي حققه. أي الانجاز الذي قدرته الجماهير خارج لبنان بحيث رفعت صوره فوق عشرات المسيرات الحاشدة التي ملأت شوارع المدن العربية والإسلامية. ويرى أنصاره أن النصر الذي حققه المقاتلون سلب"القاعدة"دورها ومكانتها وقدم حسن نصرالله كنموذج للمقاومة الإسلامية الشريفة التي تثبت براءة المسلمين والإسلام من اتهامات العنف والإرهاب. وعليه اعترفت الصحافة العربية والأجنبية بأهمية الانتصار الذي استحق العناوين البارزة بعد خمسة عقود من الهزائم العربية المتواصلة. لهذه الأسباب وسواها يعتقد المحللون بأن الحديثين المتلفزين اللذين قدمهما السيد حسن نصرالله كانا بمثابة تهجم سياسي صارم ضد الذين يؤمن بأنهم لم ينصفوه ولم يساندوا مقاتليه بالقدر المعنوي المطلوب. لذلك وصفهم بحلفاء الأعداء. أجوبة رئيس"اللقاء النيابي الديموقراطي"وليد جنبلاط لا تفسر انتصار"حزب الله"بموجب معايير الربح والخسارة، كما يفسرها حسن نصرالله. وهو يرى أن هناك التباساً مدعوماً بقناعات غير مقنعة، صاغها المهللون لدمار لبنان وإعادة احتلال الجنوب بواسطة قوات أجنبية بعد مضي ست سنوات على تحريره. وتساءل جنبلاط في المؤتمر الصحافي الذي عقده في قصر"المختارة"عقب إعلان وقف اطلاق النار، عن هوية المقاومة وأهدافها البعيدة: هل هي مقاومة لبنانية أم هي أداة للمحور الإيراني - السوري على الأرض اللبنانية؟ ثم اختصر الموقف المعبّر عن مخاوف جماعة 14 آذار بطرح سلسلة فرضيات بينها: أولاً، تحدثنا في آخر جلسات الحوار عن ضرورة انخراط"حزب الله"في جسم الدولة اللبنانية على اعتبار أن هذه الخطوة ستبني الثقة التي هدمتها الأحداث المتراكمة. أي الثقة بدور دولة هي لجميع الفئات والطوائف. ثانياً، ان قرار الحرب والسلم يجب ألا يكون حكراً على فئة واحدة، وإنما يجب أن يخضع لمنطق الشراكة التي تمارس داخل المؤسسات الدستورية، وداخل مجلس الوزراء الذي يعود اليه حق ممارسة هذه الصلاحية. ثالثاً، عرضنا في جلسات الحوار أهمية رسم سياسة دفاعية استراتيجية يتولى الجيش اللبناني تنفيذها. لماذا لا يمكن لجيش وطني إقامة توازن الردع إذا أصبحت ترسانة الصواريخ تحت امرته؟ ثم تطرق النائب وليد جنبلاط في حديثه الى ثقة حسن نصرالله وتأكيده بأن ما هُدم سيعاد بناؤه بواسطة المال النظيف الذي وفرته إيران. وعلق جنبلاط على هذا الموضوع بقوله إن إعادة البناء يمكن أن تتم أيضاً بفضل المال الشريف السعودي والكويتي والخليجي، إضافة الى الدعم السياسي المصري والأردني. وهو يعتبر أن الثقة التي دُمرت بين أبناء الشعب الواحد، يصعب استعادتها أو ترميمها بواسطة المال. وحول هذه النقطة بالذات، أعلن جنبلاط أنه سيطالب بوضع مشروع قانون يدين ويمنع الحصول على مساعدات مالية خارج إطار الدولة. كما يمنع الحصول على اسلحة لهيئات أو أحزاب أو جمعيات خارج سلطة الدولة ومراقبتها. وهو يذكر كيف رفضت طهران مساعدة وزير الخارجية السابق فارس بويز على تقوية الدولة الفتية سنة 1992 من خلال التعاطي المباشر معها. كذلك رفضت مطلباً مماثلاً للرئيس رفيق الحريري بحجة ان"حزب الله"هو امتداد ايديولوجي لايران في لبنان. ولهذا بررت المساعدات السخية التي تمنح شهرياً باسم التغلب على الضائقة الاقتصادية التي يعانيها لبنان. وبما ان الدولة اللبنانية عاجزة عن مجاراة ايران في ميدان العطاء السياسي المشروط، فقد تولد عن هذا العمل شعور بالولاء للحزب مقابل الشعور بالكراهية للدولة. وكان من المنطقي ان تنشط العواطف المؤيدة لايران لدى طبقة محرومة، مهمشة تشعر بان هناك دولة صديقة تساعدها على تخطي صعوباتها الاجتماعية. منطق"حزب الله"يرفض هذا التفسير لأن ايران تمده بالمال والسلاح من أجل تحرير الأرض من المغتصب الاسرائيلي. وهو يرى ان أهدافه العامة تحظى باهتمام ايران وسورية، الدولتين اللتين تؤمنان له فرص المواجهة في وقت يفتقر الجيش اللبناني الى شروط التصدي، وحول هذا الاجتهاد يرتفع جدار الخلافات الداخلية بين الذين يؤمنون بأن"حزب الله"يخضع لاملاءات ايران وسورية، وبين الذين يعتبرونه قادراً على توظيف علاقاته الحسنة مع دولتين اسلاميتين تعينانه على لعب دور حاسم. ملاحظات جماعة 14 آذار تشير الى قناعة راسخة بأن دور"حزب الله"هو دور قوة الاحتياط للدفاع عن ايران في حال تعرضها لهجوم اسرائيلي. وهي ترى ان الظرف الجديد الذي نشأ في الجنوب اعطى الدولة المركزية دوراً إضافياً لرعاية كل الأطراف بمن فيهم"حزب الله". كما ترى ايضاً ان الدعوة الى تشكيل حكومة اتحاد وطني لا تتعدى المطالبة بضرورة اشراك ممثلي العماد ميشال عون كمكافأة له على تحالفه مع حسن نصرالله. في حين يعتقد أنصار"التيار الوطني الحر"ان مشاركتهم في التركيبة الجديدة يؤمن للحكومة غطاء مسيحياً مهماً تفتقره التشكيلة الحالية. مجلس المطارنة الكاثوليك قدم في بيانه الأخير سلسلة تحفظات حول الوضع المتوتر الذي نشأ قبل اندلاع القتال وبعده. ويستدل من مضمون البيان ان الحضور المسيحي مغيب بسبب غياب دور رئيس الجمهورية لا بسبب وجود ميشال عون خارج الحكم. وينتقد المجلس تفرد طائفة واحدة بحق امتلاك السلاح، في حين تخلت الطوائف الأخرى عن أسلحتها عملاً باتفاق الطائف. ويرى المجلس ايضاً ان تنفيذ القرارين 425 و1701 اضافة الى العمل باتفاقية الهدنة... كل هذه الخطوات مهدت الطريق لاعادة تنظيم وحدات"حزب الله"على أسس افقية تؤمن له الانتشار بين المذاهب الأخرى. وهذا يقتضي بالضرورة، إعادة النظر في صيغة خطاب التعبئة والعودة الى تسمية"المقاومة اللبنانية"بدلاً من"المقاومة الاسلامية". ويشاع في هذا الخصوص ان تغيير الاسم جاء بناء على طلب ايران التي رفضت فكرة الانفتاح على العناصر المسيحية، علماً ان عمليات الاستشهاد في الجنوب دشنتها صبيتان هما سناء محيدلي وفدوى غانم من الحزب القومي الاجتماعي. يبقى السؤال المتعلق بسلاح"حزب الله"، وما إذا كان الوضع الأمني في الجنوب سيدفع القيادة الى التخلي عن الصواريخ والقنابل والبنادق لصالح الجيش اللبناني؟! الجواب بالتأكيد: لا... والسبب ان"حزب الله"يخبئ ما تبقى من ترسانته الى جولة عسكرية جديدة قد تنشأ عن فشل المحادثات الايرانية - الاوروبية، أو عن ارتفاع حدة الخلاف الأميركي - السوري حول مستقبل لبنان! خبراء الأممالمتحدة يتخوفون من صيغة الالتباس والغموض التي تضمنها القرار 1701 عندما تحاشى واضعوه تحديد مهمة القوات الدولية المؤلفة من 15 ألف جندي، إضافة الى 15 ألفاً من الجيش اللبناني. وفي مقالة كتبها الجنرال البريطاني روبرت سميث، وصف قوات اليونيفيل بأنها رهائن مقترحة على"حزب الله"، الأمر الذي يعيد الى الذاكرة ما حدث لقوات المارينز في بيروت وللقوات الفرنسية في تشرين الأول اكتوبر 1983. يومها قتلت عمليتان استشهاديتان 241 اميركياً و58 فرنسياً، ما دفع هذه القوات الى الانسحاب بعد فترة قصيرة. على صعيد آخر، قال وزير الدفاع الاسرائيلي عمير بيرتس ان الحكومة قد تدرس احتمالات الافراج عن السجناء اللبنانيين الذين تحتجزهم منذ فترة طويلة. وذكر في حديثه الى"راديو الجيش"انه لا يستبعد التوصل الى اتفاق يتضمن اطلاق سراح المعتقل اللبناني سمير القنطار من عائلة درزية في قضاء عاليه. ويعتبر سمير أقدم سجين لبناني في اسرائيل. وهو يقضي عقوبات عدة بسبب قتله ثلاثة اشخاص في هجوم على مستوطنة"نهاريا"سنة 1979. وكان القس الاميركي جيسي جاكسون قد اجتمع برئيس مفاوضي الأسرى ليفي ديكر، وطمأنه الى وجود الجنديين الأسيرين لدى"حزب الله"ايهود غولد وايزر والداد ريغيف، على قيد الحياة. ويقال في هذا السياق ان توني بلير استطاع ان يقنع محمود عباس، بأن تحريك عملية السلام يحتاج الى خطوة جريئة قد تكون بإعادة الجندي الاسرائيلي المختطف لدى"حماس". وكل ما يحتاجه"حزب الله"في هذه المرحلة، هو الاحتفال باطلاق سراح الاسرى اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين، تماماً كما حدث سنة 2004. عندها يمكن القول ان عملية 12 تموز يوليو قد أجبرت ايهود اولمرت على تقليد ارييل شارون في الاستسلام لمنطق القوة. وربما يقتنع وليد جنبلاط هذه المرة، بأن الاسير الدرزي سمير قنطار لا يمكن استرجاعه بواسطة كوندوليزا رايس. * كاتب وصحافي لبناني