رجع أيلول ورجع معه المغتربون الأردنيون إلى الغربة. الغربة مكان العمل ومصدر الأموال"الإضافية"للداخل، ليتمكّن المقيمون، من الأهل والأقارب، من تلبية متطلبات العيش التي تتزايد وتتفاقم يوماً بعد يوم. يقضي المغتربون بين الأهل صيفاً حافلاً بلقاء الأحبة واجتماع الشمل والسهر... وحفلات الأعراس التي حُدّدت مواعيدها مسبقاً لتجمع المرشّحين والمرشّحات للزواج. تلك الحفلات التي تجرى فيها أعمال"قياس"و"تفصيل"و"تطبيق"من نوع آخر. وما يميز معظم المغتربين الأردنيين أنهم دأبوا، كل عام، على العودة الى الوطن، كسراً لروتين الغربة والعمل اليومي وتشابه الأيام المناظر الطبيعية في بعض البلدان الباردة:"ثلج، ثلج، ثلج... في كل مكان"، على ما تظل تردّد الجدة أم سهيل عندما زارت ابنها وعائلته في كندا، لتساعد كنّتها على الاهتمام بالمولود الجديد. لم تكن رحلتها موفقة آنذاك، قضت ثلاثة أشهر قارسة. والأدهى أن أم سهيل حُسبت على أهل الاغتراب مع أنها لم تسافر خارجاً، منذ ذلك الحين. وتناديها زميلاتها في الجيل: سُكنى الكندية. ولم يخطر في بال سامر، المغترب في الإمارات، الذي جاء إلى الأردن لحضور زفاف شقيقته، أن أمه أعدت له"طبخة زواج"... وهو أمر أربكه وأحرجه نظراً إلى ضيق وقته وقصر إجازته القصيرة. ففضل تأجيله، ما أدّى إلى"احتراق الطبخة"وأصاب أمه بخيبة بعدما وعدت ابنة أختها ب"تطبيق"سامر لها. وباسل 28 سنة واجهته، قبل سنوات، صعوبات في الحصول على تأشيرة إلى الولاياتالمتحدة. تزوج ابنة عمه المواطنة الأميركية، فور وصوله إلى هناك، لا حبّاً بها، بل ليضمن الحصول على إقامة وترخيص عمل والجنسية في وقت لاحق. وفي الصيف، عاد بعد أربع سنوات في الغربة، مدّخراً مبلغاً من المال مكنه من شراء شقة. أما أم ايهاب 54 سنة المغتربه في الولاياتالمتحدة من ثلاثين عاماً، فجاءت في إجازة لكنها تفكر جدياً في الاستقرار والاستثمار في الأردن، علماً أنها اعتادت الى الغربة. إلاّ أنها، وبعد طول غيابها، لا تزال تحنّ إلى عادات أهل الأردن وتقاليدهم. محمد متروك 57 سنة قصّته مختلفة جداً. عاد ليعيش في قريته، بعد غربة دامت سنوات، وشيّد منزلاً فخماً واشترى لأولاده سيارات، ما زاد حساده بين أقاربه وجيرانه فاختلقوا القصص حول سبل جمعه المال بهذه الوفرة، فما كان منه إلاّ أن باع البيت واشترى آخر في عمان لعائلته، ثم عاد الى الغربة مجدداً، ليبتعد من القيل والقال والحسد والنميمة وليحافظ على مستوى عيشه. رجع أيلول ورجع معه المغتربون الأردنيون إلى الغربة. وعادت شوارع عمان الى سكونها بعد أن غصّت بناس وسيارات على اختلاف لوحات أرقامها. ولكل شيء وجهان والغربة ليست استثناء، لها حسنات وأيضاً سيئات. فمنهم من تغرّب وذاق مرارة العيش وعاد صفر اليدين ومنهم من جمع المال ولكنه لم يجد السعادة. البعض فضّل الغربة على الوطن والبعض الآخر العكس. وآخرون علقوا بين شاطئين واعتادوا الوداع تلو الوداع واللقاء تلو اللقاء.