من ضمن الأحداث التي مرت بسرعة وخجل ولم تجد لها في نشرات الأخبار او حتى شرائط اخبار الفضائيات العربية الدوارة تدمير مبنى جريدة"الاتحاد"الفلسطينية في مدينة حيفا بصواريخ حزب الله في الحرب الأخيرة مع اسرائيل. الجريدة، التي يتجاوز عمرها اكثر من خمسين سنة، ضم أرشيفها الكثير من تاريخ فلسطين والمنطقة وشهدت بدايات ادباء فلسطينيين من امثال محمود درويش وتوفيق زياد وإميل حبيبي. صواريخ حزب الله التي اصابت خطأ الجريدة وقتلت بعض الفلسطينيين ودمرت منازل ومصالح لعرب 48 في اسرائيل، ذكّرت مجدداً بهؤلاء الناس المنسيين، ومأزق حياتهم الدامي الذي بدأ مع تاريخ تأسيس دولة اسرائيل عام 1948. قليلة هي الأعمال السينمائية التي تغوص في حيوات وعذابات فلسطينيي 48، من هنا تبدو اهمية فيلم محمد بكري الأخير"من يوم ما رحت"الذي نقل بصدق متفرد حكاية ايام ليست عادية أبداً لفلسطينيي 48 دون ان يتورط بأية خطابية او عاطفية زائدة. الفيلم الذي حاز الجائزة الكبرى، لمهرجان روتردام للسينما العربية فئة الأفلام التسجيلية الطويلة، يتنقل الآن بين المهرجانات السينمائية العربية والدولية مع حظوظ قليلة بعرضه على شاشات التلفزة العربية، لأسباب ترتبط بموقف الكثير من الإعلام العربي المرتبك امام وجود وإبداع فلسطينيي 48. الإعلام العربي، بخلفيات القومجية، صورة اخرى للموقف الرسمي السياسي العربي الذي اختار منذ"النكبة"وبدايات دولة اسرائيل عام 1948 عزل وتهميش مئات الألوف من الفلسطينيين ممن رفضوا لسبب او لآخر ترك فلسطين عام 1948 والاتجاه شرقاً الى الدول العربية المجاورة او الأراضي التي بقيت آنذاك تحت الحكم الفلسطيني العربي. لعقود كاملة كان هناك ما يشبه الحصار شبه الكامل فرضته الدول العربية على تنقل فلسطينيي 48 في اراضيها. كان هناك حصار ثقافي آخر لا يقل شدة فرض على ابداعات الفلسطينيين هناك وعزلهم في شكل كبير عن ثقافات المنطقة. حيرة ما... فيلم محمد بكري"من يوم ما رحت"هو إذاً، فيلم عن حياة فلسطينيي 48 وظروف حياتهم المعقدة والهشة وإشكالية العيش في بلد في حالة حرب متواصلة مع ما تبقى من ابناء بلدهم ولغتهم وثقافتهم. صحيح ان الفيلم يسجل حواراً بين مثقفين أحدهما ميت والآخر حي، لكن هناك إشارات كثيرة وعميقة عن الصعوبات الكبيرة التي يعيشها الأحياء الباقين من الناس البسطاء من فلسطيني عام 1948 وحيرتهم امام ما يجري في العالم وفي محيطهم المشتعل دائماً! الفيلم الذي اراده مخرجه الممثل المسرحي والمخرج محمد بكري ان يكون نوعاً من التحية والشكوى لصديقه ومعلمه الكاتب الكبير اميل حبيبي، الذي رحل في منتصف الثمانينات، تحول بعد دقائق من بدايته الى الموضوع والهم الكبير: فلسطين. مشاهد البداية صورت لمحمد بكري وحيداً عند قبر اميل حبيبي، ومهدت لفيلم تسجيلي غير مسبوق عربياً، هذا الحوار بين الممثل وصديقه ومؤلف روايته"المتشائل"هو شيء لم تعتده الشاشات العربية او على الأقل لم تعتده بهذا القدر الكبير من الصدق والسخرية في آن واحد. استعان المخرج محمد بكري بمشاهد ارشيفية جمعته بالراحل اميل حبيبي قبل رحيله بفترة قصيرة وقبل بدء الانتفاضة الفلسطينية الأولى. هناك ألفة محببة غلفت تلك المشاهد الأرشيفية التي كان اميل حبيبي هو المتكلم الأكثر فيها، الألفة هي ألفة الزمن الفائت. حديث اميل حبيبي الساخر والذي كان معظمه بالإنكليزية هو خطاب سياسي متوازن وسابق لزمنه أنتجته تجربة حياتية مختلفة قاسية لا يعرف العرب الكثير عنها بسبب القطيعة مع فلسطينيي 48 والتي دامت الى بدايات التسعينات عندما عقد الفلسطينيون وبعض الدول العربية اتفاقات سلام مع اسرائيل. العزلة فككها قليلاً ايضاً انتشار البث الفضائي، عندها بدأ الكثيرون منا بالاطلاع على حياة فلسطينيي 48 وصراعاتهم الكبيرة مع السلطات الإسرائيلية المتعاقبة لتأكيد هويتهم وانتماءاتهم الوطنية والعربية. بعد ظهور قليل متقطع للراحل اميل حبيبي يأخذ الفيلم منحى آخر، إذ يبدأ محمد بكري بسرد احداث السنوات الفائتة منذ رحيل حبيبي. ويا لها من احداث! هموم محمد بكري، والتي يبوح بها الى صديقه، هي بالكامل هموم سياسية تدور في الفلك نفسه، فلك الصراع العربي - الإسرائيلي والصراع اليومي لفلسطينيي 48 مع النظام السياسي والاجتماعي والثقافي الإسرائيلي القائم ما يجعل الفيلم فيلماً سياسياً بامتياز، حتى التفاصيل الصغيرة عن البيت الجديد لمحمد بكري الذي بُني في 12 سنة هو تفصيل له علاقة بالوضع المضطرب للفنان والإنسان الفلسطيني. اما الحديث عن شخصية سعيد ابو النحس بطل"المتشائل"لإميل حبيبي فهو ليس شأناً فنياً بالكامل، فسعيد الذي مثل الشخصية الفلسطينية المسحوقة لفلسطينيي 48 هو ايضاً شخصية سياسية صار تقديمها او استحضارها جزءاً من الوعي الخاص بثقافة فلسطينيي 48. محمد بكري في النهاية ممثل مسرحي كان يمكن ان يقضي سنوات عمله كلها متنقلاً بين خشبات المسرح مؤدياً أدوار مختلفة ممتعاً جمهوراً كبيراً أو أفراداً معدودين، ما شهدناه في الفيلم هو سيناريو آخر لم يسع إليه بكري و لم يحلم يوماً بتمثيله. الأحداث المتعاقبة التي رواها محمد بكري هي في جزء كبير منها كابوسية. طبعاً لا يعلم الكثير منا نحن الجمهور عن ارتباط أولاد اخوة لمحمد بكري في مساعدة فلسطينيين من غزة في تنفيذ عمليات انتحارية في اسرائيل في بدايات سنة 2001 ! الحدث الذي استحوذ على افتتاحيات الصحف العبرية لأيام يبدو انه مر علينا بلا إشارة في ايام يبدو انها تهمش احداثاً لا تنتهي بالموت أو القتل. مأساة شخصية هذه المأساة الشخصية لمحمد بكري كانت إحدى اكثر قصص الفيلم تأثيراً. هناك مشاهد لأخ محمد بكري والد الشباب قبل وبعد حدوث الاعتقال وإصدار الأحكام عليهم 400 سنة سجن التغيير على هيئة الرجل واضح في شكل كبير جداً بين تلك المشاهد، الكلمات القليلة التي رد بها على أسئلة محمد بكري وصمته الكبير من الأشياء المؤثرة جداً، ففي النهاية 400 سنة وقت طويل للانتظار لأب مشتاق! من قصص الفيلم الأخرى قصة فيلم"جنين"، فمحمد بكري الذي كان صنع فيلماً مؤثراً آخراً عما حدث في مخيم اللاجئين في جنين عام 2002، تعرض الى أقسى حملة ممكنة من المتشددين الإسرائيليين في مدينته وأينما عرض الفيلم في إسرائيل بحجة ان محمد بكري صنع فيلماً تحريضياً على دولة اسرائيل. الاحتجاجات لم تتوقف بل تطورت الى منع عرض الفيلم في صالات العرض في اسرائيل ومن ثم محاولات، محمد بكري مع محاميه الإسرائيلي اليهودي النبيل، الطعن في قرار المحكمة. هذه التفاصيل أخذت وقتاً طويلاً لكنها مهمة جداً لفهم المناخ النفسي والاجتماعي الذي يعيش فيه مثقف فلسطيني عربي مثل محمد بكري والضغوط الهائلة التي تواجهه من بعض الجماعات اليهودية المتشددة عندما يقرر مثلاً ان يصنع فيلماً عن المخيم المنكوب جنين. اللافت انه على رغم كل الشتائم والكلمات القاسية التي حاصرت محمد بكري اثناء عروض فيلمه"جنين"القليلة في اسرائيل بقي هادئاً لطيفاً جاهزاً دوماً للحوار وتوضيح دوافعه لصنع فيلم كجنين. وحتى عندما أخذت هتافات المتشددين تتخذ طابعاً قاسياً بتذكيرها بأولاد أخ المخرج المسجونين بقضايا تخص أمن الدولة، اكتفى محمد بكري بإشاحة وجهه والمشي بعيداً عن مجموعات المتشددين التي تقف خارج صالات السينما اينما ذهب. محمد بكري اضطر مع ولده الى بيع اسطوانات"الدي في دي"الخاصة بفيلم"جنين"بنفسه في الشوارع الفلسطينية بعد ان رفضت المحكمة الإسرائيلية العليا الموافقة على عرض الفيلم في إسرائيل. في احد مشاهد النهاية للفيلم نرى محمد بكري في احدى صالات العرض المسرحية يقدم نصاً اجنبياً مع فرقة مسرحية إسرائيلية غربية مشتركة ليذكرنا بمحمد بكري الممثل وحضوره الكبير على خشبة المسرح او في الحياة. في نهاية الفيلم نعرف ان الفرقة المسرحية اضطرت الى التوقف عن عروضها المسرحية، بسبب وجود محمد بكري الذي هيّج مجدداً الجمعيات المتشددة نفسها. محمد بكري من يومها عاطل عن مهنته الأساسية: التمثيل المسرحي إلا انه موجود بقوة في تراجيديا مؤلمة ما زالت تسرق فرح الناس وحياتهم هناك في فلسطين.