هذه الحرب العبثية المدمرة التي لم تكتمل فصولاً بعد رغم صدور قرار مجلس الأمن الرقم 1701 لا منتصر فيها مهما طال الزمن ومهما قدم من تحليلات وتقويم لنتائجها، نظراً لحجم الأضرار والخسائر المادية والبشرية. بعيداً عن أحاديث النصر والهزيمة يمكن القول بدقة أكثر ان هناك حسابات واقعية عن الربح والخسارة ضمن موازين وتفسيرات ووقائع وانعكاسات، وآثار قريبة وبعيدة المدى لا يمكن إنكارها ولا القفز فوق معطياتها وحقائقها الثابتة في أرض الميدان وساحة المعركة عسكرياً وسياسياً وإعلامياً ومعنوياً. وفي تقويم أولي لهذه الموازين في جدولة حسابات الربح والخسارة يمكن تقديم صورة أولية ومبدئية للنتائج على المدى القريب المنظور لأن النتائج البعيدة المدى لبنانياً واسرائيلياً وعربياً ودولياً لا يمكن الإمساك بتلابيبها ولا فك ألغازها ولا حتى معرفتها إلا في ضوء عوامل أساسية لا بد من توافر معطياتها، ومنها: * مدى الالتزام بتنفيذ القرار 1701 من قبل جميع الأطراف. * الخطوة التالية وسرعة تنفيذها وهي نشر قوات الطوارئ الدولية الموسعة عدداً وعتاداً وصلاحية لتقوم بالمهمات المنوطة بها بالتنسيق مع الجيش اللبناني المستعد للتوجه الى الجنوب للحلول مكان القوات الاسرائيلية الغازية وضمان الانسحاب الكامل والسريع لآخر جندي الى ما وراء الخط الأزرق. * الخطوة الثالثة وتتمثل في صدور القرار الدولي الثاني الموعود من قبل مجلس الأمن الدولي ويفترض أن يتضمن موقفاً واضحاً من قضايا محورية مثل الانسحاب من مزارع شبعا وترسيم الحدود وتبادل الأسرى وتسليم خرائط الألغام وتعهد اسرائيل بوقف اعتداءاتها وانتهاكها للمجال الجوي اللبناني والالتزام باتفاقية الهدنة مقابل تعهد"حزب الله"بعدم القيام بعمليات مضادة. * مدى جدية الدول الكبرى في متابعة تنفيذ القرارين والالتزام بتعهداتها والمحافظة على وحدة القرار والموقف، وتأمين استمرارية زخم الدعم لإنهاء الأزمة من دون تردد ولا تواكل ولا تخاذل. * مواقف القوى الاقليمية القريبة والبعيدة ولا سيما سورية وايران من تنفيذ القرارين وتسهيل عودة الأمن والاستقرار والسلام ومدى استعداد الدول المعنية لفتح باب الحوار معهما لاشراكهما في جهود السلام في لبنان ونزع فتيل الانفجار المرتقب بتوسيع نطاق الحرب ورفع سيف التهديد بضربات قريبة للبلدين من قبل الولاياتالمتحدة أو اسرائيل. * مدى قدرة الحكومة اللبنانية على معالجة آثار العدوان وتأمين استمرارية التضامن الحكومي ونزع فتيل الفتن الداخلية ومعالجة موضوع سلاح"حزب الله"بالحوار والتفاهم وليس بالقوة، والانتقال الى مرحلة إعادة الإعمار واصلاح ما دمر وتهدم بفعل أداة الارهاب الاسرائيلي الغاشم. * مدى صدقية الالتزام الدولي والعربي بمد يد العون للبنان ومساعدته على الخروج من محنته وتقديم المساعدات المادية المطلوبة لإعادة الإعمار والتي تقدر بأكثر من 5 بلايين دولار تم تأمين 500 مليون من السعودية و300 مليون من الكويت كخطوة أولية قوبلت بكثير من الامتنان والارتياح، وأحيت الأمل بعودة لبنان الى سابق عهده وتجاوز آثار هذا العدوان. * الخطوة الأهم والأكثر إلحاحاً اليوم تتمثل في معالجة جذور الأزمة نزع فتيل صواعق التفجير في لبنان والمنطقة، وتوافر القناعة لدى الدول الكبرى ولا سيما الولاياتالمتحدة ومعها اسرائيل بأن أي حل لا يتضمن ايجاد تسوية نهائية وعادلة وشاملة لأزمة الشرق الأوسط وإحلال السلام في المنطقة بشكل دائم لن يعمر طويلاً بل سيولد حروباً أخرى واضطرابات تهدد المصالح الدولية وربما تكون نيرانها أشد قوة وأكثر انتشاراً من لهيب نيران الحرب الأخيرة. كل ما هو مطلوب لإنهاء هذه الدوامة الدامية والمدمرة ليس للمنطقة فحسب بل للعالم أجمع كي يلخص بكلمة واحدة وهي العدالة، ولا مجال لفرضها الا بالحسم الكامل والسريع وتطبيق جدي لقرارات الشرعية الدولية ومبدأ الأرض مقابل السلام وانسحاب اسرائيل من جميع الأراضي العربية المحتلة ومنح الشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة وفي مقدمها حقه في الحياة وتقرير المصير وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف. فقط عندما يتم تحقيق هذا الانجاز التاريخي يمكن الحديث عن السلام والاستقرار ووضع نهاية لدوامة الحروب وآلة القتل والدمار بين عام وعام وعقد وعقد ويمكن الاطمئنان للحاضر والمستقبل وتأمين غد مشرق لأولادنا وأحفادنا. وأي حل آخر ما هو إلا مخدر ومسكن سرعان ما ينتهي مفعوله وتعود"حليمة لحروبها القديمة"وتتكرر المآسي وتتجدد النكبات ومعها المذابح وتدمير البنى التحتية وإحراق لقمة الفقير والمحتاج ومعها الآمال والتمنيات وأحلام الأبرياء. ومع تحقيق هذا الانجاز التاريخي تنتفي كل الآفات التي نعاني منها ويلتفت الجميع للعمل والبناء، وتنتفي معها آفات الأحقاد والعداء والتهديدات المستمرة وكل مبررات العنف والارهاب وتهديد المصالح الدولية، ويسود السلام والاستقرار المنطقة والعالم. أما حسابات الربح والخسارة في الحرب فلا يمكن حصرها في هذه العجالة وليس من المنطقي وضعها في اطار متكامل ونهائي نظراً للمتغيرات المرتقبة والخروقات المتوقعة والنكسات المنتظرة والمفاجآت التي تتفرد بها منطقتنا والصراعات المحتملة على المصالح والنفوذ، اضافة الى مجريات سير العلاقات مع سورية وتطورات الملف النووي الايراني ومفاعيله على مجريات الأحداث في كل أحواله وظروفه وخريطة طريقه ومساره المتشعب والمتأرجح بين الحل والانفراج والتأزم والانفجار. ما يمكن رصده من جردة حسابات ينطلق من النتائج المنظورة على الساحة بعد أن سكتت أصوات المدافع وانجلى غبار المعارك وهدأت طبول الحرب ضمن التحليلات الآتية: * لبنان كدولة وشعب خرج من الحرب وهو يئن من جراحه ويشعر بالذهول من حجم الدمار والأضرار والخسائر في الممتلكات والأرواح وهي أغلى من أي مال ولا تعوض حتى بدا وكأنه الخاسر الأكبر في كل ما جرى. ولكن هذه النظرة المتشائمة محصورة في المدى المنظور والفوري والقريب تقابلها نظرة متفائلة ترسم ميزاناً مختلفاً لجردة الربح والخسارة، وترجح كفة الأرباح على المدى البعيد على رغم كل ما جرى في حال إكمال مسيرة الحل بجدية وحكمة وتعقل وتفهم وتفاهم من قبل مختلف الأطراف الداخلية والعربية والخارجية وإحلال السلام بشكل نهائي بعد سحب كل أوراق التأزم وأسباب التوتر وجذور المشكلة، ولا سيما موضوعي مزارع شبعا والأسرى اللبنانيين ووضع خطة عملاقة لإعادة الإعمار في وقت قياسي وقطع دابر أي محاولة لاستغلال الفرصة الذهبية من قبل الفاسدين لتحقيق مكاسب مالية على حساب لقمة عيش المواطن وآلام النازحين ودماء المدنيين المنكوبين وأحلام الأطفال الأبرياء، على أن يبدأ في وقت متزامن الشروع في حوار بناء وهادئ حول جميع القضايا المثارة ونقاط التباين والاختلاف، وبسط سيادة الدولة على كامل أراضيها والالتفاف حولها كوطن نهائي وموحد وليس كمزرعة أو فيديراليات طوائف وعشائر ومصالح ومطامع. عندها تتحول الخسائر الى أرباح ويتم تجاوز هذه المحنة الأليمة ويبدأ لبنان خطوة الألف ميل في رحلة السلام والاستقلال والانتصار الحقيقي على الذات وعلى العدو وعلى مشاريع الفتن والحروب المدمرة. * الحكومة اللبنانية: خرجت خاسرة نظراً لفقدان مقومات تأمين الحماية والأمن للمواطن وعدم القدرة على حماية الأرض وبسط سيادة الدولة عليها وبدت للوهلة الأولى عاجزة عن الحركة لا حول لها ولا قوة، فيما آلة الدمار تعمل تهديماً بكل ما تم بناؤه والصواريخ تتطاير من حولها لتدمر أحلام اللبنانيين وآمالهم بموسم اصطياف مزدهر وبنمو اقتصادي وصل خلال عام الى 5 في المئة وخطط اقتصادية لاصلاح الوضع وحل مشاكل الكهرباء ونزيفها، والضمان وهمومه وبيروت واحد وطموحاته وعودة المغتربين ومزاياها وتضاعف الاستثمارات العربية والأجنبية وانعكاساتها على مستوى معيشة المواطن. ولكن هذه الخسائر يمكن أن تتبدد في حال استمرار المنهج الحالي في تعزيز الوحدة الوطنية ونبذ الفتن والالتفات الى البناء وتنفيذ القرارات الدولية وترجمة التزامات الدعم والمساعدة والمساندة، خصوصاً أن الحكومة نجحت في تحويل بعض الخسائر الى مكاسب بتماسكها ووحدة قرارها والتفاف اللبنانيين حولها ونجاح رئيسها فؤاد السنيورة في ادارة الأزمة وتقديم خطة عملية أمنت الاجماع الوطني حولها حتى تم الوصول الى حلول عملية قد تكون جائرة في بعض جوانبها ولكنها تدخل في اطار"فن الممكن"وتعكس صورة الواقع الدولي. هذا التحول من كفة الخسائر الى كفة الأرباح يمكن البناء عليه بالوحدة والمثابرة وبذل الجهود لوأد أي فتنة وقطع دابر مؤامرات اسرائيل الرامية الى الانتقال الى حرب املاءات وتفجيرات وتطويق أي خلاف لتجاوز المرحلة الدقيقة التي تشكل ولادة ثانية وربما ثابتة للبنان المستقل والحر والمزدهر لينتقل بعدها على المدى البعيد من خانة الخاسر الأكبر في الحرب الى الكاسب الأكبر منها. *"حزب الله"خرج بمكاسب كثيرة من الحرب من بينها قدرته على مواجهة اسرائيل وتكبيدها خسائر فادحة في الأرواح والمعدات وعدم استسلامه لآلة الحرب الصهيونية الهمجية وثبات المقاومين في مقارعة العدو والتضحية بأغلى ما يملك الانسان، اضافة الى مكاسب معنوية واعلامية حيث يمكن القول بوضوح انه ربح الحرب الإعلامية بجدارة داخلياً وعربياً واسرائيلياً ودولياً. في المقابل لقد خسر"حزب الله"الكثير من الأوراق والأرزاق، ومن بينها ورقة التفرد في التمركز على الحدود وفي الجنوب وتقديم طروحات حول شرعية الإبقاء على سلاح المقاومة وجدواه والمسؤولية عن قرار الحرب والسلم وحساباته. ولكن بعض الخسائر يمكن ان يتحول الى أرباح في حال تثبيت لبنانية مزارع شبعا وإلزام اسرائيل بالانسحاب منها وإعادة الأسرى اللبنانيين. أما الخسائر في الممتلكات فلا حساب لها في الحروب ولكن الخسائر في الأرواح لا تعوض الا بالإيمان بقدسية الاستشهاد على رغم الاشارة الى الأعباء الكبرى الملقاة على عاتق الحزب في رعاية أسرهم وإعادة بناء مؤسساته المدمرة وحل مشاكل مئات الألوف من النازحين والمهجرين الذين فقدوا بيوتهم وممتلكاتهم بالتعاون مع الحكومة. * الشعب الفلسطيني: خرج بأكبر قدر من الخسائر لأن قضيته همشت على رغم أنها أم القضايا والمشاكل ونسي العالم مآسي المنكوبين وجرائم الصهاينة وآلام الحصار الظالم، فيما دفع عرب فلسطين 1948 ثمناً مضاعفاً للحرب من خلال القتلى والجرحى من جراء سقوط الصواريخ أو في عدم اهتمام السلطات الاسرائيلية بحياتهم وأمنهم وازدياد حدة العداء تجاههم. ولكن هذه الخسائر يمكن أن تتحول الى أرباح في حال نجاح الفلسطينيين في توحيد صفوفهم وتصعيد نضالهم وتكثيف الجهود لحمل الدول العربية على الضغط من أجل ايجاد حل جذري وعادل للقضية الفلسطينية بعد تحريكها نتيجة لحرب لبنان. * اسرائيل خرجت من الحرب بخسائر مادية وعسكرية ومعنوية وسياسية لا تقدر، وتمثلت الخسائر الكبرى في ضرب مقولة"الجيش الذي لا يقهر"من قبل مقاتلي"حزب الله"ووصول صواريخه الى عمق الأراضي المحتلة للمرة الأولى. والخسائر الأكبر في الحرب بالاضافة الى قيادة الحرب من جنرالات الجيش هو ايهود اولمرت رئيس الحكومة ومعه حكومته وشريكه في الائتلاف عمير بيرتس. ومن غير المستبعد ان يدفعا معاً ثمن ما جرى ان عاجلاً أو آجلاً ففي اسرائيل هناك محاسبة ورأي عام وصحافة حرة لا بد ان تعري اولمرت وبيرتس وتحولهما الى كبش محرقة بعد اتهامهما بالسقوط في اول تجربة سياسية وعسكرية يخوضانها خصوصاً انهما لا ينتميان الى المؤسسة العسكرية التي دخلت في صراع مع السياسيين لا بد أن يأخذ أبعاداً خطيرة. الا ان الخسائر التي ترجح كفتها على المدى القريب حولت اسرائيل بعضها الى مكاسب من بينها اجتياحها للحدود ونجاحها في الضغط السياسي والعسكري واصدار قرار دولي يصب لمصلحتها في معظم بنوده ويدعو لإبعاد"حزب الله"عن الحدود وإحلال قوات دولية مدعمة بالجيش اللبناني مكانه وهو مطلب قديم لم تحققه الا بالقوة. وهنا ايضاً يمكن الجزم بأن ميزان الخسائر والمكاسب ما زال متأرجحاً ولن يهدأ ويستقر الا بعد تنفيذ القرارات الدولية وحصد النتائج على أرض الواقع. هذا على صعيد الأطراف المعنية مباشرة بالحرب، اما الأطراف غير المباشرة فقد حصدت نتائج مماثلة في الربح والخسارة فايران مثلاً ربحت ورقة دعم"حزب الله"لكنها خسرت ورقة جنوبلبنان في ملفها النووي، وأميركا خسرت سمعة في انحيازها لاسرائيل ولكنها عادت وحصدت أرباحاً عبر فرض قرار دولي ملزم على رغم التعديلات التي أدخلت عليه وأثبتت مرة أخرى انها اللاعب الأساسي دولياً. أما فرنسا فحصدت الكثير من المكاسب انسانياً وسياسياً في وقوفها الى جانب الحق اللبناني ودفاعها عن مطالب لبنان ثم في اصدار قرار الوقف ومشاركتها في القوات الدولية واستعدادها لمساعدة لبنان. وحصدت أوروبا مكاسب أخرى في تميزها عن الولاياتالمتحدة وتغليب البعد الانساني في تعاملها الواقعي ودعوتها للنظر في جذور الأزمة. أما الدول العربية فقد كادت أن تخسر الكثير من الأوراق والسمعة لولا تدارك الأمر في ربع الساعة الأخير، وعقد اجتماع لوزراء الخارجية في بيروت ثم المشاركة في حمل مطالب لبنان المحقة الى الأممالمتحدة لتعديل القرار الدولي وفق الممكن والمتاح، والمطلوب كثير من العرب من أجل تحويل الخسائر الى مكاسب وأوله المسارعة الى المساهمة في إعادة الإعمار ودعم لبنان الجريح. مرة أخرى هذه الجردة في حسابات الربح والخسارة موقتة ويمكن ان تتبدل في أي لحظة صعوداً أو هبوطاً حسب مجريات الأحداث وجدية الساعي لإحلال السلام الدائم وفرض آلية التنفيذ في أرض المعركة... وعلى أرض الواقع. * كاتب وصحافي عربي